إنّ البلدية في أيّة مدينة تُعيِّن عدداً من عمّال التنظيف بمهمة تنظيف المدينة من القمامة والأوساخ والمهملات، لتُبقي على وجه المدينة نظيفاً وجميلاً وصحِّياً، لكنّ هذا لا يمنع ولا يحصر مسؤولية النظافة في هؤلاء فقط. فأنا وأنت مسؤولان أيضاً عن نظافة مدينتنا بكلِّ ما يمكن أن (يُخفِّف) من أعباء المسؤولية على عمّال النظافة، وبكلّ ما يمكن أن (يُحقِّق نظافة أوسع)، وبكلِّ ما (يُشيع ثقافة التعاون).
هنا، أنا لستُ مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن أعمال التنظيف، وإذا قصّرتُ فقد لا تُحاسبني البلدية، ولا تستقطع شيئاً من معاشي (مُرتّبي)، ولكنني أقوم بذلك بوازع من ضميري، ولتقديري أنّ مسؤولية النظافة هي مسؤولية الجميع، وأنّ التزامي بتعليمات أمانة العاصمة أو بلدية المدينة في إلقاء القمامة في الأماكن المخصّصة لها، سوف يُسهم ربما في تقليص عدد الأيدي العاملة ونفقات التنظيف ليوفِّرها في مجالات أخرى!
هذا هو ما نعنيه بالجانب الأخلاقي للمسؤولية، فليست المسؤولية في الإسلام شكلاً جامداً من أشكال التكليف الوظيفي، هي من ناحية: مسؤولية المكلّفين تكليفاً مباشراً، ومن ناحية: مسؤولية الذين يستشعرون أنهم معنيّون أيضاً بتحمّل ما يستطيعون منها على نحو: (التبرّع) و(التطوّع) و(الإحسان) و(المبادرة) و(المسارعة في الخيرات).
حدثَ أمام إحدى المدارس تجمّع كثيف للسيارات بسبب الحضور في وقتٍ واحدٍ أو مقارب لإنزال الأولاد عند باب المدرسة.. تعذّر السير.. أطلق البعض زمور سيارته.. قلّدهُ البعض الآخر. آخرون أخرجوا رؤوسهم من نوافذ سياراتهم لينظروا كيف المخرج وينتظروا الفرج.. آخرون لوّحوا بأيدهم بحركاتٍ اتِّهامية للآخرين.. والسير واقف بل ويتزايد.. ليس هناك شرطي مرور يُنظِّم السير..
أحد الآباء نزل من سيارته.. وراح يُنظِّم السير.. وتحرّكت السيارات ببطءٍ في البداية، ثمّ أنت خفّت حدة السير والإزدحام، وانفرجت الأزمة.
هذا الأب الذي مارس دورَ شرطي المرور متطوِّعاً، مَن الذي كلّفه بذلك؟ مَن الذي حمّله المسؤوليّة؟
شعورُه أنّه لابدّ من مُتصدٍّ أم مُبادرٍ يقوم بعملٍ ما ليُساعد نفسه ويُساعد الآخرين، هو الذي دفعه لحلِّ الأزمة، ولو لم يفعل لبقيت السيارات راكدة راقدة، الزمامير صارخةً متصاعدة، والأيادي منفعلةً ملوِّحة!!
إنّ أخلاقية المسؤولية تدعوني إذا انتهيتُ من إنجاز ما بذمّتي من مسؤولية وتكليف في وقتها المحدّد، أن أسألك إن كنتَ بحاجةٍ إلى مساعدتي لكي تُنجز أنت مسؤوليّتك في وقتها المحدد أيضاً.
إنّ قولي لأمِّي أنّ مسؤوليتي هي تنظيف غرفتي فقط، وأنّ (سلمى) أختي هي مسؤولة عن تنظيف غرفتها، حتى لو كانت سلمى مريضة أو لديها إمتحانات، وكان بإمكاني أن أعرض خدمتي لمساعدتها، هو قولٌ فيه (إلتزام حرفي) بالمسؤولية.. أنتَ هنا لم تكذب، ولم تخالف الواقع، لكنّك تعاملتَ مع الموقف (تعاملاً آليّاً) ولم تتعامل معه (تعاملاً إنسانياً).. حيث نسيتَ أنّك قد تحتاج إلى مساعدة أختك سلمى في وقتٍ آخر لتقوم بتنظيف غرفتك حين لا تستطيع تنظيفها بنفسك.
أخلاقية المسؤولية تنبع من (الشعور بالمسؤوليّة)، فالطبيب الذي يرنّ هاتفه منتصف الليل ويُهرع إلى مريضه، هو يعمل خارج دوامه.. وفي أثناء راحته واستجمامه، لكنّه يجد لذّة إسعاف المريض الذي لولا نجدة الطبيب لربّما بقي حتى الصباح متوجِّعاً متألِّماً.
وبالتالي، فحينما (أحجِّم) موقعي، وأضيِّق مساحتي، فإنني أعتبر مسؤوليتي بحجم موقعي الصغير ومساحتي الضيِّقة، أمّا عندما أنظر إلى مسؤوليتي بحجم موقعي في العالم، وليس بحجم البقعة التي أقطن فيها، فإنّ المسألة تختلف.
الثوّار.. المصلحون.. المغيِّرون.. الأنبياء.. الزعماء في العالم، كانت مسؤوليّاتهم أوسع من الرّقعة الجغرافية التي كانوا ينطلقون منها ويتحرّكون فيها..
(جيفارا) قائد ثوري.. لم يكن مسلماً.. لكنّه كان إنساناً مسؤولاً.. ساهمَ في تحرير (كوبا).. وعمل على تحرير (بوليفيا)، وكان يطمح أن يُحرِّر أفريقيا كلّها من قبضة الإستغلال والهيمنة.
المسلم الذي له أسوة برسول الله (ص) المبعوث للناس كافّة، مسرحُ عمله ونشاطه الأرض كلّها، ولو لم يكن كذلك، لما انتشر الإسلام في جهات الدنيا الأربع.
هذه هي مسؤولية الخلافة في الأرض!