الاعتكاف
--------------------------------------------------------------------------------
في الاعتكاف
وفيه تمهيد ومباحث
تمهيد
المبحث الأول: في شرائط الإعتكاف
المبحث الثاني: في ما يحرم على المعتكف
المبحث الثالث: في أحكام الإعتكاف
تمهيد:
الاعتكاف في اللغة: الإقامة على الشيء في المكان. وفي الشريعة: المكث في المسجد بقصد التعبّد للّه وحده. وهو مشروع قرآناً وسنة وإجماعاً. ويبدو أنَّ الإسلام قد شرّع الاعتكاف ليكون وسيلة موقوتة وعبادة محدودة تؤدى بين حين وآخر، لتحقيق نقلة إلى رحاب اللّه يعمّق فيها الإنسان صلته بربِّه ويتزود بما تتيح له العبادة من زاد، ليرجع إلى حياته الاعتيادية وعمله اليومي وقلبه أشدّ ثباتاً وإيمانه أقوى فاعلية.
وأساس الاعتكاف يتمثّل في المكث ثلاثة أيام في المسجد. وله شروط من أهمها الصيام، والتزامات منها اجتناب الاستمتاع الجنسي. وفيما يلي نستعرض أحكامه مفصّلة في مباحث:
المبحث الأول: في شرائط الاعتكاف:
للاعتكاف شروط لا يصح بدونها وهي كما يأتي:
الأول: العقل.
الثاني: الإيمان.
الثالث: نية القربة ابتداءً واستمراراً كسائر العبادات.
والمهم في النية: أن ينوي الاعتكاف في المسجد قربة إلى اللّه تعالى، وليس من الضروري أن يقصد باعتكافه التوفر على مزيد من الدعاء والصلاة وإن كان هذا أفضل وأكمل، غير أنَّ الاعتكاف بذاته عبادة يصح أن يقصد ويتقرّب به إلى اللّه تعالى، فإن انضمّ إلى ذلك التفرّغ للعبادة وممارسة المزيد من الدعاء والصلاة كان نوراً على نور.
ولا بُدَّ من وقوع النية مقارنة للبدء بالاعتكاف، ولا بأس بتبييت النية من الليل لمن أراد الشروع في الاعتكاف فجراً، بنحو يمر عليه الفجر وهو نائم، من دون ضرورة لكونه منتبهاً متيقظاً عند صدور النية منه مقارنة لأول الاعتكاف.
الرابع: الصيام في الأيام الثلاثة، فمن لا يصح منه الصوم لا يصح منه الاعتكاف؛ فالمريض والمسافر لا يتأتى لهما أن يعتكفا، إذ لا يصح منهما الصيام. نعم يمكن للمسافر أن يتوصل إلى ذلك بأن ينذر أن يصوم في سفره وحينئذ يسوغ له أن يعتكف ويصوم.
وللمعتكف أن ينوي بالصيام أي صيام مشروع بالنسبة إليه، فيصح له أن ينوي صيام القضاء أو صيام الكفارة، كما يصح له أن يصوم صياماً مستحباً إذا توفرت له الشروط التي يصح معها الصيام المستحب، ومن تلك الشروط أن لا يكون عليه صيام واجب على ما تقدّم، فمن كان عليه قضاء شهر رمضان وأراد أن يعتكف في غير شهر رمضان فعليه أن ينوي بصيامه القضاء الواجب.
وكما يجب أن يكون المعتكف ممن يصح منه الصوم، كذلك يجب أن تكون أيام الاعتكاف مما يصح فيها الصوم، فلا يصح الاعتكاف في ...... الفطر أو ...... الأضحى مثلاً، إذ لا يسوغ الصيام فيهما.
وكلّ ما يفسد الصوم فهو يفسد الاعتكاف ويبطله، لأنَّ الصوم شرط في صحته والمشروط يبطل ببطلان شرطه.
الخامس: العدد، وأقلّه ثلاثة نهارات تتوسطها ليلتان، ويسوغ أن يكون أكثر من ذلك، بأن ينوي الاعتكاف من بداية ليلة الجمعة إلى نهار الأحد أو إلى صباح الإثنين، فيكون اعتكافه مكوّناً من ثلاثة نهارات وأربع ليال، أو إلى غروب الإثنين أو أكثر من ذلك.
السادس: أن يكون الاعتكاف في مسجد يجتمع فيه النّاس ويعتبر مسجداً جامعاً ورئيسياً في البلد. فليس من المعلوم أن يصح الاعتكاف في مسجد صغير جانبي.
ويجب أن يكون المسجد المقصود ممارسة الاعتكاف فيه محدّداً وواحداً، فلا يسوغ الاعتكاف في مسجدين على نحو يمكث في هذا يوماً وفي ذاك يوماً أو يومين، وعليه فإذا اعتكف في مسجد وتعذر البقاء فيه للإتمام والإكمال بطل الاعتكاف من الأساس، ولا يسوغ توزيعه بين مسجدين وإن تقاربا أو تجاورا.
والمسجد يشمل كلّ طوابقه من السطح والسراديب، ولو خصّ المعتكف بنيته زاوية خاصة من المسجد فنوى الاعتكاف في تلك الزاوية بالذات، فلا أثر لهذا القصد، ويسوغ لهذا القاصد أن يمكث ويتنقل في كلّ أجزاء ذلك المسجد.
السابع: أن لا يخرج المعتكف من مسجده إلاَّ لضرورة شرعية أو عرفية، فمن الضرورة الشرعية أن يخرج لغسل الجنابة، إذ لا يجوز له أن يمكث في المسجد ويغتسل حتى ولو كان ذلك ممكناً، ومنها الخروج لحضور صلاة الجمعة إذا أقيمت. ومن الضرورة العرفية أن يخرج لقضاء الحاجة أو لعلاج مرض داهمه ونحو ذلك، ولا يشترط لجواز الخروج عند الضرورة عدم إمكان تأديها في المسجد، لذا لو أمكنه إتيان الغسل الواجب من مسّ الميت في المسجد، أو أمكنه استدعاء الطبيب إلى المسجد، جاز له الخروج ـ رغم ذلك ـ والاغتسال في بيته أو التداوي في عيادة الطبيب.
فإذا لم تكن هناك حاجة ضرورية للخروج شرعاً أو عرفاً وخرج متعمداً بطل اعتكافه، وكذا لو خرج لغير ضرورة جهلاً أو نسياناً على الأحوط. ويستثنى من ذلك الأمور التالية:
أ ـ إذا خرج لعيادة مريض أو معالجته فإنه لا يبطل بذلك اعتكافه.
ب ـ إذا خرج لتشييع جنازة وما إليه من تجهيز.
ج ـ إذا أكره على الخروج.
وفي كلّ حالة يسوغ للمعتكف فيها الخروج عليه أن يقتصر في ابتعاده عن المسجد على قدر الحاجة التي سوغت له الخروج، ولا يجلس مهما أمكن، وإذا اضطر إلى الجلوس فلا يجلس في ظلّ، ويتحرى مهما أمكن أقرب الطرق.
الثامن: أن يترك كلّ ما يجب على المعتكف اجتنابه مما يأتي بيانه في التزامات المعتكف، فإذا مارس عامداً شيئاً من تلك الأشياء بطل اعتكافه، بل يبطل مع الإتيان بها جهلاً أو نسياناً على الأحوط وجوباً، وإذا وقع منه هذا النسيان أو الجهل في اليوم الثالث فالأحوط وجوباً إكمال اعتكافه، لاحتمال أن يقبل منه، ثُمَّ يعيده.
المبحث الثاني: في ما يحرم على المعتكف:
يجب على المعتكف منذ ابتداء اعتكافه إلى انتهائه أن يجتنب نهاراً أو ليلاً عما يلي:
أولاً: مباشرة النساء بالجماع أو بما دون ذلك من الاستمتاع بالتقبيل واللمس أيضاً.
ثانياً: الاستمناء (أي إنزال المني باليد أو بآلة).
ثالثاً: شم الطيب، وهو كلّ مادة لها رائحة طيبة وتتخذ للشم والتطيب، كعطر الورد والقرنفل وغيره.
رابعاً: التلذذ بما للرياحين من رائحة طيبة، والرياحين كلّ نبات ذو رائحة طيبة، كالورد والياسمين.
خامساً: التجارة بشتى أنواعها، ولا يدخل في نطاق ذلك ما يمارسه الإنسان من أعمال شخصية نافعة له، كالخياطة والطبخ والحياكة ونحو ذلك.
سادساً: المماراة، ونريد بها هنا المجادلة والمنازعة في قضية معينة حبّاً بالظهور والفوز على الأقران، سواء كانت وجهة نظر المعتكف صحيحة بذاتها أو لا، وسواء كانت القضية المطروحة للجدال دينية أو غير دينية؛ وأمّا إذا كان الجدال والنقاش بروح موضوعية وبدافع إثبات الحقّ أو حرصاً على تصحيح خطأ الآخرين فلا ضير فيه.
المبحث الثالث: في أحكام الاعتكاف:
م ـ 1025: الاعتكاف مستحب ومندوب بطبيعته، وقد يجب بنذر أو عهد أو يمين.
م ـ 1026: إذا بدأ الإنسان اعتكافه جاز له في كلّ لحظة أن يلغي اعتكافه ويغادر المسجد، ويستثنى من ذلك ما يلي:
أولاً: إذا كان قد وجب عليه الاعتكاف بنذر ونحوه في تلك الأيام بالذات، فإنه يجب عليه حينئذ أن يواصل اعتكافه، وأمّا إذا كان قد نذر أن يعتكف بدون أن يحدّد أياماً معينة فله إذا شرع في الاعتكاف أن يهدمه مؤجلاً الوفاء إلى أيام أخرى.
ثانياً: إذا كان قد مضى على المعتكف يومان، أي نهاران، فإنَّ عليه في هذه الحالة أن يكمل اعتكافه حتى ولو كان قد بدأه مستحباً، إلاَّ في حالة واحدة، وهي أن يكون حين نوى الاعتكاف قد شرط بينه وبين ربِّه أن يتحلل من اعتكافه ويلغيه متى شاء، أو في حالات معينة، ففي هذه الحالة يسوغ له أن يهدم اعتكافه وفقاً لشرطه حتى في اليوم الثالث.
م ـ 1027: يختلف حكم المعتكف عند فساد اعتكافه لأي سبب من الأسباب السابقة على حالات:
أ ـ أن يكون اعتكافه مستحباً عند البدء وقد فسد قبل مضي نهارين منه، ففي هذه الحالة لا يجب عليه إعادته.
ب ـ أن يكون اعتكافه مستحباً عند البدء وقد فسد بعد مضي يومين فيجب عليه حينئذ إعادته، ولكن لا تجب إعادته على الفور بل له أن يعيده بعد مدّة. نعم إذا فسد في هذه الحالة لمصادفة اليوم الثالث منه ليوم العيد سهواً، أو لالتفاته إلى كون الاعتكاف في غير المسجد، انصرف عن اعتكافه من غير إعادة.
ج ـ أن يكون قد نذر الاعتكاف في أيام محدّدة كالعشرة الأولى من رجب، واعتكف وفاءً بنذره، فعليه أن يعيد اعتكافه، سواء كان نذره محدّداً بتلك الأيام التي فسد فيها الاعتكاف بالذات كأن يكون قد حدّده بأيام الخميس والجمعة والسبت من تلك الأيام العشرة، أو غير محدّد بيوم خاص ضمن الأيام العشرة، غير أنَّ الإعادة في حالة النذر المحدّد تسمى قضاءً لأنها تقع بعد انتهاء الأمد المحدّد في النذر ولا يجب فيها الفور، وأمّا في الحالة الثانية فالإعادة عمل بالنذر ووفاء له في وقته المحدّد فيه ويجب أن تقع وفق المدّة المحدّدة في النذر.
م ـ 1028: إذا تعمد المعتكف مقاربة زوجته فعليه كفارة مخالفة الاعتكاف، سواء كان ذلك في الليل أو في النهار، ولا كفارة عليه إذا تعمّد غير ذلك مما يحرم عليه وإنما عليه أن يتوب.
غير أنه إذا قارب هذا المعتكف في النهار وهو صائم في شهر رمضان أو في قضاء شهر رمضان فعليه كفارتان، إحداهما: على أساس أنه تحدّى بذلك اعتكافه، والأخرى: كفارة إفطار صيام شهر رمضان أو كفارة إفطار قضاء شهر رمضان.
وإذا افترضنا في الحالة الآنفة الذكر أنَّ الاعتكاف في تلك الأيام بالذات كان منذوراً وجب على المعتكف الذي قارب زوجته كفارة ثالثة من أجل تحديه للنذر.
م ـ 1029: الأحوط وجوباً كون كفارة الاعتكاف في حالة مقاربة الزوجة مرتبة، وذلك بأن يعتق رقبة، فإن عجز صام شهرين متتابعين، فإن عجز أطعم ستين مسكيناً.