متى
نظر الإنسانُ أو تدبر أمراً، ووقف بأنه حقيقة أو مصلحة، وجدَ في نفسه
ارتياحاً عندما يلاقي شخصاً يشاركه في الشعور به، ويكون ارتياحه أشد حيث
يراه يعمل على مقتضى هذا الشعور، كما أنه يتألم حينما يشاهد أمراً ينكر تلك
الحقيقة أو المصلحة، ويكون تألمه أشد حيث يراه مجدًّا في مناوأتها، سالكاً
غير سبيلها، وهذا التألم الذي يشتدُّ فيدفعك إلى أن تسهب في إيضاح وجه
الحقيقة أو المصلحة، أو تعمل على أن تكفَّ يد من يبغي عليها ما أمكنك، هو
ما نعنيه بالغيرة.
فإذا
حدَّثك الرجل في أمر، وأراك أنه مطمئن إلى أنه حقٌّ ثم لا تلبث أن تراه
متحيزاً إلى من يكيد له، ويدعو إلى من ينقضه، فاعلم أنه خالي القلب من
الاطمئنان إليه، وإنما أراك ظاهراً يخالف ما يُكنُّه صدره، وتطمئنُّ إليه
نفسه، والعقل السليم لا يستطيع أن يفهم كيف يجتمع الإيمانُ بالحقِّ مع
موالاة من يحاربه في السرِّ أو العلانية، فالغيرةُ على الحقِّ من مقتضيات
الإيمان به، تَقْوَى بقوَّته، وتضعف بضعفه، وتُفقَد حيث لا يكون القلب
مؤمناً.
وفي الناس من يلهج بكلمة (التسامح)،
يملأ بها فمه حتى لا تنكر عليه حين تراه، قد اتخذ من المضلين أو المفسدين
في الأرض أولياء، يطيل التردد على أعتابهم، ويغمس لسانه أينما جلس في
إطرائهم، ويجهد نفسه في تمويه باطلهم؛ والتسامح
المعقول ألَّا تُؤذي من خالفك في العقيدة، فتنسب إليه زوراً، أو تنفي عنه
مكرمة، أو تهضم له حقًّا، أو تنكث له عهداً، أو تخلف له وعداً، ومن التسامح
المقبول أن تبرَّه وتقسط إليه، وتمدَّ إليه يد التعاون على المصالح
المشتركة، وقد حرَّمت الشريعةُ الإسلامية الإساءةَ إلى المخالفين،
الذين لم يُخرجونا من ديارنا، ولم يطعنوا في ديننا، ولم يوقدوا ناراً
لحربنا، على وجه يعمُّ المخالفين المقيمين في ظلِّ الإسلام، ... وأذنت في
أن نبرَّهم ونقسط إليهم قال تعالى: {لَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. [الممتحنة: 8]
وقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نداري من ينتمون إلى الإسلام،
ونعاشرهم بالمعروف، وإن عرفنا في لحن أقوالهم، أو غيره من الدلائل الخفية
أنهم من طائفة المنافقين.
أما
الرجل يملك قلماً أو لساناً أو حساماً أو جاهاً، فيصرفه في نقض أساس ما هو
دين حق، أو شريعة صالح، فذلك ما لا يتولَّاه إلا غبيٌّ لا يفرِّق بين
الأعمى والبصير، أو زائغ عن سبيل الرشد، فما له من نور، وقد أنكر الله على
من يتزلَّف لأشياع الغيِّ فقال: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}. [النساء : 139]
وفي الآية شاهدُ صدقٍ على أن العزة بيد الله، يخلعها على من يغار على
الحقائق، غير مكترث بمن يناوئونها، وإن كانوا أُولي جاهٍ أو سلطان.
فمن
الغيرة على الحق أن تقاوم المبطلين أو المفسدين، قاطعاً النظر عن كل صلةٍ
وعاطفة؛ ومن التسامح المقبول أن تدفعهم بالتي هي أحسن، حتى كأنك لا تعرف
شيئاً من شؤونهم غير ما تصديت لمناقشتهم فيه، وذلك ما يستبين به الناس أنك
لا تقصد إلا أن تكفَّ بأسهم، وتحمى النفوس من وباء دعايتهم.
تتفاضل
الحقائق والمصالح من ناحية ما يتصل بها من خير، فوجود الخالق أو صدق محمد
صلى الله عليه وسلم في رسالته مثلاً، يقوم على الإيمان به من سعادة الأفراد
والأقوام أكثر مما يقوم على الإيمان بعدل أبي بكر وعمر بن الخطاب. وإقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة يترتب عليها من الفلاح فوق ما يترتب على زيارة أخ أو
عيادة مريض.
وكذلك
الغيرة على الحقائق والمصالح تكون على قدر تفاضلها فيما يترتب عليها من
العواقب، فالغيرة الصادقة أن يتألم الرجل من الجهل على مقام الأُلوهية أو
الرسالة العظمى أشد مما يتألم للطعن في نفسه أو في أخٍ له أو صديق؛ ويتألم
لهدم مسجد أو إلغاء مدرسة أشد مما يتألم لهدم بيت أو إهمال حديقة.
بعيدٌ من الغيرة على الحقائق
ذلك الذي يسمع سوء القول في الله أو في رسوله فلا يجد في نفسه لسماع هذا
السَّفه أثراً، وإذا مُسَّ جانب مَن يتصل به نسباً، أو يمدُّ له من متاع
هذه الحياة سبباً، هاج غضبه، وارتعدت فرائصه!!
بعيدٌ من الغيرة على المصالح
ذلك الذي يكون تحت يده مال فيبخل به على بناء مدرسة، يستنير فيها
الناشئون، أو إقامة ملجأ يأوى إليه البائسون، ويبسط به يده في إنشاء مرقص
أو ملهى، يتخذ فيه الفتيان والفتيات أنصاباً، يسفكون عليها دم الفضيلة.
ضَعفُ الغيرةِ على الحق أو فقدها نقيصة تنزل بصاحبها إلى الحضيض.
وكذلك
ينبغي للإنسان أن يملك الغيرة عند ثورتها، فلا يخرج في معاملة المنتهك
لحرمة الحق عن حدود العدل، فالذي يغار على أمر جعل الشارع لمنتهكه حدًّا
مفروضاً، لا يحلُّ له أن يتجاوز ما حدَّه الشارع استرسالاً مع طغيانها، فإن
كان الجزاء موكولاً لاجتهاد القاضي اجتزأ القاضي بالمقدار الذي يكفي
للردع؛ وليس من الغيرة المحمودة أن يتعدَّى في جزاء السيئة ما يكفي للزجر
عن اقترافها، والغيرة الصادقة هي التي تنهض بصاحبها إلى مكافحة المبطل أو
المفسد، وتقويم عِوجه في تثبتٍ وحزم.
الغيرة
تبعث الرجل على الجهاد في الحق بأي وسيلة استطاعها، فالرئيس الغيور يذود
عن الحق بما في يده من قوة، متى كان الهاجم عليه في غشاوة تمنعه من أن يفقه
الحجة، والعالم الغيور لا يفتأ يذبُّ عن الحقِّ بلسانه أو قلمه، ولا يسوقه
طمع أو رهبة إلى الخمول أو الصمت، وما خمول العالم وصمته سوى قلة الثقة
بما وعد الله به أنصار الحقِّ من فوز وحياة طيبة، والموسر الغيور ينفق في
سبيل الإصلاح باليمين واليسار؛ ومن كان صافي البصيرة يرتاح لظهور الحقِّ،
وقيام المصلحة العامة، أكثر مما يرتاح لأن يكنز ذهباً، أو تكون له قصور
فيحاء وحدائق غناء.
وإذا
أردت أن تميِّز فاقد الغيرة على المصالح ممن يغارون عليها، فهو الذي يجري
وراء منافعه الخاصة أينما رآها أو تخيَّلها؛ يراها بجانب مصلحة عامة، فيظهر
في زيِّ الداعي إلى هذه المصلحة، ويملأ الجو نداء للتعاون عليها، حتى إذا
تراءت له منفعة لا يصل إليها إلا أن يقضي على ما ينفع الناس جميعاً، داسه
بكلتا قدميه، وذهب إلى منفعته توًّا لا يلوي على شيء.
قد
يسلك الرجل طريق العدل، محافظة على المنصب، أو رغبة في حسن الأحدوثة، ولكن
الغيرة على الحق هي التي تجعل الحاكم عادلاً في كل قضية؛ فالغيرة على الحق
هي التي تقف بالقاضي في حدود الإنصاف، حين تُرفع إليه خصومة بين ذي سلطان
وأشعث أغبر ذي طمرين، فلا يبالي أن ينصف ذا الطمرين، ويقضي على ذي السلطان،
وكذلك يفعل القضاة العادلون.
دُعي
العلامة محمد بن بشير إلى قضاء قرطبة، فاستشار صديقاً له في قبول الولاية،
فقال له: كيف حبك لمدح الناس لك، وثنائهم عليك؟ وكيف حبك للولاية وكراهيتك
للعزل؟ قال: والله ما أبالي من مدحني أو ذمَّني، وما أُسَرُّ للولاية، ولا
أستوحش للعزل. فقال: اقبل الولاية، ولا بأس عليك.
وفي سيرة ابن بشير هذا ما يشهد بصدق غيرته على الحق، ويحقق ما وصف به نفسه، من أنه لا يسرُّ للولاية، ولا يستوحش من العزل.
ومن
الخطر على الحقوق والمصالح أن يتولَّى أمرها محروم من الغيرة عليها، وكم
من حقٍّ أُهمل ومصلحة أُميتت، والسبب في إهمال ذاك، وإماتة هذه أن أُلقي
أمرهما إلى من لم يذق للغيرة عليهما طعماً.
ماذا
يكون العمل في قضية الاعتداء على هتك الفتاة، إذا أُسندت إلى من تقلَّب في
بيئة لا تعرف للعفاف سبيلاً؟ وماذا يكون العمل في قضية الاعتداء على
الدين، إذا وُضعت بين يدي من لا يرى له حرمة، ولا يرعى للأمة التي تعتصم به
ذمة؟ وكيف تدار مدرسة ترجع نظم التعليم فيها إلى مَن يُؤثر اللهو على
الجدِّ، ويفتنه زخرف الحياة عن طرق الرشد، التي تخرج رجالاً يعملون صالحاً،
ويبتكرون عظيماً، ونحن نرى في الشعوب من حيل بينها وبين واجبات دينها،
وأُكرهت على التعامل بغير ما تأذن به شريعتها، واستبدَّ عليها في طريقة
تعليم أبنائها، ذلك لأنها وقعت تحت ذي قوة استضعفها، ولم يكن له نصيب من
الغيرة على شريعتها.
إن
أمة لها دين قيِّم، وشرع حكيم، ومجد لم يصف التاريخ له من نظير، لا يستقيم
أمرها إلا لمن يغار على شرعها، أو يتودد لها باحترامه، والمحافظة على
أصوله.
وإذا
حكى لنا التاريخ أن ذا سلطان آذى أمة إسلامية في دينها، أو قهرها بالسيف
أو بوسيلة التعليم على أن تنسلخ من هداية ربها، فلأنه إنما وضع سلطانه على
رؤوس جماعات متفرقة غافلة، أما الأمم المتيقظة التي تقدِّر الحقَّ قدره،
فليس من السهل على ذي القوة أن يؤذيها في دينها، ويستخف بالحقوق التي
قرَّرها شرعها، إلا أن يكون جهولاً بالعواقب، أو غير راغب في أن يكون
سلطانه ثابت القواعد.
الغيرة على الحق تتمثل فيمن ينظر إلى الدليل، ويصدع بما أراه الله، وإن كره السائلون.....
وتتمثل
الغيرة على الحقِّ فيمن يفسح له بعض الوجهاء في الإكرام مكانة، ولا يمنعه
ذلك من أن ينظر إلى ما أكرمه الله به من عقل، ورفعه به من علم، فلا يسكت
لذلك الوجيه عما يأتي من منكر، ويذهب في تقويمه كل مذهب ممكن....
وفصل
القول في هذا أن الغيرة على الحق والمصلحة ما غلبت على نفوس الأمة إلا
استقامت سيرتها، وعلت في الأمم سمعتها، وحسنت في كلتا الحياتين عاقبتها،
ولا حقَّ أجلى مما يدعو إليه الخلَّاق العليم، ولا مصلحة أعظم مما تهدي
إليه أصول شرعه الحكيم، فإذا لم نرسم في نفوس نشئنا الغيرة على حقائق
الدين، وما أرشد إليه من مصالح، وما سنَّه من آداب، ضلوا عن أسمى الحقائق،
وأضاعوا أكبر المصالح، وتجرَّدوا من أسنى الآداب، وهل غير هذه العاقبة من
خسران مبين؟!
فمن
أهم واجباتنا أن نربِّي نشأنا على الشعور بعظمة الله، ثم لا نفتأ نذكر لهم
آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يطمئنوا إلى صحتها، ولا ندع أن
نقرِّر لهم أصول الشريعة على وجه يجعلهم على بصيرة من حكمتها، وهذا ما
يربِّي فيهم الغيرة المهذَّبة، ويعدُّهم لأن يكونوا للحقائق والمصالح
أنصاراً.