هناك ُبعدان لدراسة العلاقة بين الحجاب والتدين:
الأول: الارتباط بين الالتزام بالحجاب، والالتزام العام بأوامر الشرع.
الثاني: الارتباط بين معدل ارتداء الحجاب ومستوى الحالة الدينية للمجتمع.
فبالنسبة للبعد الأول: يـتـمـثـل فـي دوافــع ارتداء الحجاب، والحالة الدينية للمرأة بعد إضعافها.
أمــــا عـن الدوافع: فلا خلاف في أن ارتداء الحجاب في السبعينيات كانت دوافعه دينية مباشرة، ووفـقــاً لأحد البحوث الاجتماعية كان 90% من الأسباب الدافعة للحجاب ـ كما أقرت المحـجـبــات ـ تدور حول الخوف من الله ـ من عذاب الآخرة ـ الرغبة في الجنة ـ يقظة الضمير الدينـي( إلـخ، ولـكـــن مـــع مرور الوقت وانتشار الحجاب بين فئات المجتمع تحول ـ عند بعض الناس إلى ما يشبه الـعــرف الــعـام، والتقليد المتبع، ونشأت أجيال كان ارتداؤهن للحجاب ينبع من كونه تقليداً أو عرفاً أو ضـغـطــاً اجتماعياً قبل أن يكون أمراً شرعياً، ويقوِّي هذا الرأي تزايد نسبة المحجبات اللاتي يرتـبط حجابهن بأمور مثل: الزواج، تقدم السن، ولا يشمل ذلك ـ بالطبع ـ كل المحجبات، وخاصة اللاتي ينتمين إلى التيارات الإسلامية بمعناها العام. وهذا التحول بالحجاب إلى تـقـلـيـد ـ لــدى الـكـثـيـرات ـ لم يـكــن حتمياً، وإنما كان مدعماً بأمرين: عدم إتاحة الفرصة لتعميق هذه الظاهرة وتقوية ارتباطـهــا بأصلها الديني المباشر من قِبَل العلماء والدعاة، والحرب المعلنة على الحجاب التي يؤرخ بعضهم بَدْأها من عام 1981م.
أمـا بالنسبة للحالة الدينية للمرأة بعد ارتداء الحجاب، فهنا نجد أنفسنا ـ وفقاً لما سبق ـ أمام ثلاث حالات:
الأولى: مــن ارتدت الحجاب عرفاً أو طاعة لوليٍّ (زوج ـ أب) أو لأسباب أخرى، لكن ليس لوازع ديني.
الثانية: من ارتدت الحجاب التزاماً انتقائياً وليس عاماً بأحكام الشرع.
الثالثة: وهي التي يشكل ارتداؤها للحجاب أحد مظاهر التزامها العام بالشرع.
فالمحجبة في الحالة الأولى لا يترتب علـى حجابـهـا ـ في معظــم الأحيـان ـ تغـيــر واضـح فـي السـلوك أو الطاعات، وهي تنتمي ـ غالباً ـ إلى الفئة السلبية دينياً في المجتمع، والتي ليس لها موقف واضح من عوامــــل الإفساد، ويصل التعارض بين السلوك ـ عند بعضهن ـ لدرجة التناقض، مما يساهم في تـشـــويـــــــه الصورة العامة للمحجبات، ويدفع كثيراً من الجهال لاتهام الحجاب نفسه؛ ولا يفوت الأقلام العلمانية أن تستغل هذه الفئة في حربها على الحجاب.
أمـــا في الحالة الثانية فالمرأة دفعها وازع ديني للحجاب، ومن ثَمَّ فهي تحرص على عدم التناقــض بين زيِّها وسلوكها، ولكن في إطار عرفي، بمعنى البعد عن كل ما ينتقد المجتمع صدوره عـــــن المحجبة، أو ما يعيبها خارج بيتها، وهذا بالطبع غير منضبط؛ فالمجتمع يتعارف ـ في كـثـير من الأحيان ـ على ما يخالف الشرع، ولذلك فالمحجبة في هذه الحالة لا ترى بأساً في المصافحة أو النظر أو الحديث مع الرجال أو الاختلاط المسموح به عرفاً لا شرعاً، ولا شك فـي مـيـوعــــــة هذا الوضع، وإن كان أقل من الحالة الأولى، وأنه يجعل للمحجبة قابلية قوية للوقوع في بعض صور الانحراف المناقضة لحجابها، خاصة مع توفر عوامل مثل: صغر السن، الوســــط الـمـلائـم (الجامعة مثلاً) انتشار الفساد، ضعف رقابة الأسرة.
وتـنـتـمي المحجبة ـ في هذه الحالة ـ إلى الفئة المحافظة دينياً التي تقف موقفاً واضحاً من مظاهـر الفساد، وإن كانت تتعاطى وسائله في الوقت نفسه (التلفاز ـ الاختلاط ـ... إلخ).
أما الثانية: فـحـجـابـهـا منذ البداية كان مقترناً بالتزام عام بالشرع؛ لذا تتوفر في حالتها الضوابط اللازمة لتوافق الـسـلــــوك مع الزي، مع انتماء أكثرهن للتيارات الإسلامية ـ ولو شعورياً ـ.
وعـند المقارنة بين نسبة توزع المحجبات على هذه الفئات الثلاث في السبعينيات بمثيلتها حالــيـــــاً نجد تغيراً واضحاً؛ حيث زادت نسبة محجبات الحالة الأولى زيادة ملحوظة، فأصبحت تقارب الحالة الثانية، بينما حدث تراجع في نسبة محجبات الحالة الثالثة.
البعد الثاني لـلـعـلاقــة بين الحجاب والتدين: وهو ارتباط معدل ارتداء الحجاب بالحالة الدينية السائدة في المجتمع.
من المسلم به أن المجتـمـــع الصغير هو الأسرة أو العائلة، وتأثر المرأة بأسرتها في ارتدائها للحجاب أو عدمه حقيقة أثبتتها الدراسات؛ فكلما زادت نسبة المحجبات في الأسرة كان ميل الفتاة نحو التحجب أقوى.
وفيما يتعلق بالمجتمع الـكـبـيــر نلاحظ هنا اتجاهين مختلفين: فبينما نجد من الثابت أن انتشار الحجاب في السبعينيات كــــان أحد مظاهر إقبال الناس على الدين وعودتهم إليه، وأن التراجع في مستويات الحجاب يـقـترن أيضاً بانتشار موجات من الانحلال الخلقي في المجتمع، خاصة مع سهولة استقبال الإعــلام الإباحي عبر القنوات الفضائية، مع ذلك، فهناك اتجاه آخر لتأثير المجتمع في الحجاب، وهو أن استمرار الانحلال الخلقي وانهيار القيم يكون سبباً معاكساً لإفاقة الناس ورجوعهم إلى الدين، ولكن بعد حين.
ثالثاً: الحجاب والفئات الاجتماعية:
إعطاء معدلات عامة عن الحجاب في المجتـمـع الـمصري لا يعبر بدقة عن حقيقة الوضع؛ فهناك فئات اجتماعية متعددة ومتداخلة يتفاوت تأثـرهــا وتفاعلها مع هذه القضية تفاوتاً ملحوظاً.
وفـيـمــــا يتعلق بالحجاب يمكننا أن نقسم المجتمع في مصر وفق هذه الاعتبارات: الطبقة الاجتماعية ـ الريف والحضر ـ الفئة العمرية والحالة الاجتماعية.
باعتبار الطـبـــقة الاجتماعية: فإن الطبقة المتوسطة تمثل الصدارة؛ من حيث ارتفاع معدل ارتداء الحجاب بـيــن نسائها، ويقــل الالتـزام بالحجاب مـع ارتفاع المـؤشـر الاجتماعـي الطبقـي أو انخفاضـه، وإن كان هــذا لا يمنع من وجود الحجاب في جميع الطبقات، ويكفي أنه نجح في غزو طائفة من أهل الفن.
ولو نظرنا إلى الريف والحضر فإننا نجد أن الريف بطبيعة تكوينه الاجتماعي والثقافي يكون أقل تأثُّراً بالتغيرات الـسـياسية والثقافية والأخلاقية العامة من المجتمع الحضري، ولذلك لم يختفِ الحجاب من الريـف إبَّـان السـتـيـنـيات كما حدث في المدينة، بل استمر تقليداً يُحرَص عليه، حتى توافق مرة أخرى مع مجـتــمـــع المدينة في السبعينيات. ولكن نتيجة لارتفاع معدلات التعليم ذي التوجه العلماني، واتسـاع تأثير الإعلام، وكذا ارتفاع معدلات الهجرة من الريف إلى المدن، لم يعد تمسك المجتمع الـريـفـي ـ حالياً ـ بالحجاب كما كان أولاً.
ووفـقـــاً للاعتبار الثالث، وعلى عكس الغرض الشرعي من الحجاب وهو منع الفتنة، وأن المرأة كـلـمـــا صــغـــــر سنها زاد الافتتان بها، على العكس من ذلك نجد أن نسبة ارتداء الحجاب في مصر تزداد مع تقدم السن، حتى إنه قلما تجد امرأة تجاوزت الستين سنة من العمر متبرجة ـ من نساء الطبقة الوسطى ـ وفي المقابل يقل إلى درجة كبيرة اقتران الحجاب بوقت البلوغ، ثم يرتفــع تدريجياً مع ارتفاع الفئة العمرية، وتتزايد معدلات الحجاب مع الزواج عنها قبله.