المهندس
في الخامس عشر من شهر كانون الثاني عام 1996 ، اتصل عبد اللطيف عياش على رقم الهاتف الخلوي (050507497)، و هو رقم سرّي لهاتف نقال لا يعرفه إلا أشخاص معدودين على الأصابع . أهمهم ، للأسف ، رجال الشاباك الصهيوني.
ردّ على الهاتف ابن عبد اللطيف ، يحيى (المعروف باسم المهندس) المطلوب الأول لـ (إسرائيل) في مخبئه في بيت صديقه أسامة حماد في بلدة بيت لاهيا بقطاع غزة في الساعة التاسعة صباحاً ، بينما كانت مروحية صهيونية تحلّق في الجو تنتظر هذه المكالمة و بعد أن ميّز من في المروحية صوت يحيى أرسلت إشارة ، إلى عبوة ناسفة صغيرة بحجم 50 غراماً من مادة شديدة الانفجار مثبتة في الهاتف النقال ، فانفجر الهاتف الذي كان أداة اتصال المهندس مع العالم الخارجي ، بالإضافة إلى هاتف آخر ثابت ، و استشهد يحيى عياش قائد كتائب عز الدين القسام ، الذراع العسكري لحركة حماس ، و الذي تحوّل لعدة أشهر لرمز فلسطيني مقاوم اكتسب تعاطفاً لا يوصف معه من الشارع الفلسطيني .
و في الساعة الثالثة و النصف من مساء نفس اليوم كانت إذاعة (إسرائيل) تعلن عن مقتل المطلوب الأول لحكومة (إسرائيل) يحيى عياش . و كان الشارع الفلسطيني يغلي ، بينما كانت (إسرائيل) التي اتجه إليها الاتهام فوراً بالمسؤولية عن اغتيال عياش ، فرحة بالاغتيال و كان أشد (الإسرائيليين) فرحاً ، ربما كرمي غيلون رئيس جهاز الشاباك الذي كان وراء العملية و نفّذها بخطة محكمة باستخدام عميله كمال حماد .
كان عميل الشاباك كمال حماد ، هو الذي أعطى الجهاز الخلوي لابن شقيقته أسامة ، الذي يعمل معه في عمله الخاص ، ملغّماً ، و عند وقوع الاغتيال كان في يافا و بقي هناك هارباً ، و يعيش الآن حماد في (إسرائيل) متهماً جهاز المخابرات (الإسرائيلية) بالتخلي عنه .
**
كان يحيى عياش طالباً في جامعة بيرزيت في قسم الهندسة و هناك تعرّف على زميله أسامة حماد ، انتمى يحيى عياش إلى الجهاز العسكري لحركة حماس ، و بدأت (إسرائيل تتحدّث) عنه كمطلوب لها في أيار 1993 بعد أن ربطت اسمه بعملية استشهادية تم إحباطها في تشرين ثاني 1992 في رمات أفعال و قبلها في انفجار سيارة مفخّخة في مقصف مستوطنة محولا في الأغوار في نيسان 1993 .
و أطلق رابين رئيس الوزراء الصهيوني الهالك على يحيى عياش لقب المهندس ، بسبب ما عرف عنه من براعته في إعداد العبوات الناسفة و تجنيد منفّذي العمليات الاستشهادية .
و راق اللقب الذي أطلقه رابين على يحيى عياش للفلسطينيين فأصبحوا يطلقون عليه اسم المهندس أيضاً و في حين كان رابين و في كل اجتماع مع أجهزته الأمنية يسأل عن مصير المهندس و هل تمكّنوا من إلقاء القبض عليه أو تصفيته ، كان الفلسطينيون يتابعون أخبار المهندس بعد كلّ عملية استشهادية شاكرين ربهم لأن (مهندسهم) لم يقع في أيدي (إسرائيل) و أنه ما زال حياً . و انشغل الإعلام الصهيوني بالمهندس الذي أصبح معروفا بقدرته الفائقة على التخفي و العمل ضد (إسرائيل).
في نهاية تشرين أول 1994 ، نشرت صحيفة (الأوبزيرفر) الأسبوعية البريطانية أن المجلس الوزاري (الإسرائيلي) الأمني برئاسة رابين قرر القضاء على المتورطين في العمليات الاستشهادية من حركتي حماس و الجهاد الإسلامي ، و من بينهم بالطبع ، إن لم يكن على رأسهم المهندس يحيى عياش .
صحيفة يديعوت أحرنوت في عددها الصادر يوم (23/8/1997) نسبت للمهندس يحيى عياش المسؤولية عن مقتل 70 (إسرائيلياً) و إصابة نحو 240 شخصاً بجروح ، و من بين العمليات التي نسبت إليه بالتخطيط و التنفيذ ، عملية العفولة في 6/نيسان 1994 التي أسفرت عن مقتل ثمانية أشخاص ، و عملية المحطة المركزية في الخضيرة في 13 نيسان 1994 و أدّت إلى مقتل خمسة أشخاص ، و عملية خط 5 قرب ساحة ديزنغوف في تل أبيب في 19 تشرين أول 1994 و أدّت إلى مقتل 21 شخصاً ، و عملية رمات غان بتاريخ 24 تموز 1995 و أدّت إلى مقتل ستة أشخاص و عملية الباص 26 بالقدس في 21 آب 1995 و أدّت إلى مقتل خمسة أشخاص .
و كانت عملية واحدة من هذه العمليات كافية لتجعل المهندس يحيى عياش يدرج في قائمة المطلوبين لفرق الموت الصهيونية ، و حسب مصادر صهيونية فإن المهندس نجا مرتين من متتبعيه الصهاينة الذين وصلوا إلى فراشه و وجدوه فارغاً رغم أن السرير بلغة الأمن ، كان ساخناً ، أي أن المهندس هرب قبل أن يصله الصهاينة بفترة قليلة .
و بعد العملية في باص رقم 5 بالقدس و هي عملية شهيرة تبنّتها حركة حماس ، ضاقت الحلقات حول المهندس ، الذي لا تكفّ وسائل الإعلام الصهيونية عن الحديث عنه ، فاتجه إلى غزة إلى صديقه أسامة حماد الذي استضافه في بيته في بلدة بيت لاهيا ، و لم يكن يخطر ببال الصديقين أن النهاية ستكون في هذا البيت و بتلك الطريقة .
و هناك دلائل كثيرة تشير إلى أن المهندس شعر بنوع من (الأمان) في مخبئه في بيت لاهيا ، لدرجة أن زوجته و ابنه براء لحقوا به للإقامة معه و إن لم يكن في نفس البيت ، و لكن في بيتٍ قريب و كان يزورهم المهندس متخفياً و في هذا البيت ولدت له زوجته ابنه يحيى قبل نحو أسبوعين من اغتياله ، و حتى أن والدته التي كانت تتعرّض لمضايقات عديدة من جيش الاحتلال بسببه و تخضع لمراقبة أجهزة الأمن الصهيونية تمكّنت من زيارته في بيت لاهيا ، و تم اعتقالها و هي العجوز بتهمة رؤية ابنها .
و لا بد من الإشارة هنا إلى ما ذكره حسن سلامة أحد رفاق الشهيد من الجناح العسكري لحماس الذي قاد ما عرِف فيما بعد بالعمليات الثأرية لمقتل المهندس ، أن الأخير كان يستعد لمغادرة مخبئه للضفة و التخطيط لأعمال داخل الكيان الصهيوني .
و كتب في مذكراته التي نشر جزءاً منها عن الظروف التي كانت سائدة في ذلك الوقت في قطاع غزة و شرح للحصار الذي كان يعاني منه المجاهدون من السلطة و من (إسرائيل) و يصف مثلاً الظرف الذي ساد قطاع غزة بعد تنفيذ إحدى العمليات (اشتد البحث و التفتيش عن الشهيد يحيى عياش ، و الأخ الضيف (يقصد محمد الضيف) ، و وزّعت صورهم على الحواجز ، و داهمت السلطة جميع من يشتبه بهم أو المنازل التي تشكّ بوجودهم فيها ليلاً و نهاراً . هكذا كانت غزة ، و هكذا كانت السلطة ، و هذا هو وضع الكتائب في تلك المرحلة) .
و يمكن أن أذكر هنا أن لديّ شهادة شخصية على ظروف أخرى مشابهة عاشها حسن سلامة صاحب هذا الكلام ، عندما طاردته أجهزة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ، و كانت مطاردات ضيّقت الخناق على سلامة كثيراً و أدّت أخيراً إلى اعتقاله ، و فتح هذا الملف يؤدّي إلى سرد وقائع و ذكر حقائق و استخلاص استنتاجات ، يجب أن تأخذ حيزها من التقصي في بحث مستقل .
و عن تفكير الشهيد عياش بالخروج من مخبئه للضفة قال سلامة الذي يقضي حكماً طويلاً في سجون الاحتلال (في ظلّ تلك الأجواء الموجودة كان الشهيد يحيى عياش يعيش في عالم آخر ، و يفكّر في أمورٍ هي النقيض لما يطرح حيث كان للشهيد حياة خاصة في كل شيء حتى العمل . و لكن كان من ضمن المطاردين الموجودين في القطاع يتأثر بما يدور حوله لأنه كان من ضمن المسئولين الذين يملكون القرار ، المطلعين على كل الأمور ، و ما يدور حتى الآن و إذ لم يشارك في الجلسات لوضعه الخاص ، و كان الشهيد يتميّز بالهدوء التام و لا يكثر الكلام ، و قليل الضحك شغوف بالعمل و تطوير أساليبه . و لكن كان يعيش في وضع أكبر من الجميع فكان عليه أن يختار بين أن يرضخ للواقع و بين أن يكابر و يعاند و يصارع الجميع في مسألة معروفة نتائجها ، إلا أنه اختار أن يكون قدوة الجميع فتعالى بنفسه عن دنايا الأمور و صمد في وجه كل المشاكل و الخطوب و صارعها حتى النهاية . حاول الشهيد تغيير الوضع لكنه عاود و تجاهله و حاول التخطيط للعمليات التي حدثت سنة 95 في شهري يوليو و أغسطس و أرسل الأخ عبد الناصر عيسى إلى الضفة للقيام بالعمليات و بعدها اشتد الحصار من قبل السلطة إلى أقصى حدّ على الجميع و بدأت الاعتقالات و التحقيقات و اشتد البحث عن الشهيد) .
و أضاف سلامة : (كان لزاماً على الشهيد أن ينطلق إلى مكان آخر لمواصلة العمل رافضاً كلّ الحلول و فعلاً بدأ الشهيد في التفكير بالعودة إلى الضفة و هذا ما اهتدى إليه بعد التنسيق مع قيادة الكتائب و بالذات محمد الضيف و بدأ يخطّط للعودة و بعد تجهيز كلّ الأمور و الاستعداد للخروج عن طريق السلك الحدودي و قبل الموعد بيومين تفاجأ الجميع بل العالم بنبأ استشهاد المهندس ، و كانت كالصاعقة علينا ، و أقسم بالله أننا بقينا فترة طويلة لا نصدّق ما حدث لكنه أمر الله الذي اختاره ليريحه من الشقاء رحمه الله) .
و هذه الكلام لا يمنع من الاستنتاج بأن (الأمان) أو الشعور الكاذب به الذي تحدّثنا عنه هو ، أو ضيق الدنيا (على سعتها) ، على الأغلب ، الذي قاده لاستخدام الهاتف النقال رغم معرفته المسبقة بسهولة تنصت (إسرائيل) على مكالمات هذا النوع من الهواتف التابعة لشركات (إسرائيلية) ، عدا عن كون صاحب الهاتف الأصلي هو عميل معروف لـ (إسرائيل) هو كمال حماد .
و لا ينفي ذلك ، ما قاله قادة حماس إن المهندس كان حذراً في استخدام الهاتف النقال ، و أنه لم يستخدمه إلا بعد أن تم تعطيل الهاتف العادي بشكلٍ مقصود عندما أجرى والد المهندس تلك المكالمة القاتلة .
و على أية حال فإن الهواتف الثابتة ، التي عطلت خدمتها (إسرائيل) مؤقتاً وقت الحادث ، هي ، على الأغلب يمكن أن يكون التنصت عليها سهلاً بالنسبة لـ (إسرائيل) .
و في حديث لزينب حماد والدة أسامة رفيق المهندس و شقيقة كمال الذي ساعد في قتله ، لصحيفة يديعوت العبرية (23/8/1997) يتضح أن المهندس وصل إلى بيت أسامة في تموز 1995 ، و أن أسامة فوجئ عندما وجد المهندس أمامه يطرق الباب معتقداً أن المهندس تمكّن من الهرب إلى خارج فلسطين .
و تذكر زينب حماد أن شقيقها كمال استعاد الهاتف النقال مرتين لإصلاحه ، و لم يكن أحد يعرف أن الشاباك زرع تلك العبوة الناسفة فيه ، و تعطي زينب ملاحظة قد تكون هامة و هي أن الهاتف الثابت كان مشوّشاً على مدار شهر قبل اغتيال عياش ، و هي تعتقد أنه كان يخضع لرقابة (الإسرائيليين) .
و تذكر ملاحظة هامة أخرى أنه في يوم الحادث اتصل كمال حماد في السابعة و النصف صباحاً و ردّت عليه زوجة أسامة ، و طلب كمال التحدّث مع أسامة و طلب منه أن يبقي الهاتف النقال مفتوحاً لأنه ينتظر مكالمة هامة تخصّ العمل .
و بعد ساعة تقريباً اتصل والد المهندس ليهنئ ابنه بمولوده الجديد ، و لكن فجأة انقطع الهاتف العادي فاتصل على الهاتف النقال ، و ردّت عليه زوجة أسامة ، التي أعطت الهاتف إلى زوجها أسامة الذي أعطاه بدوره إلى المهندس ، الذي ردّ على والده بضع كلمات ثم انفجر الهاتف و استشهد المهندس ، الذي دوّخ (إسرائيل) ، هكذا بكلّ بساطة .
عبد اللطيف عياش والد المهندس يقول إن آخر كلمة سمعها من ابنه كانت (كيف حالك يا أبى) ثم انقطع الخط ، فحاول الحديث مرات أخرى و لكن الخط كان مقطوعاً من الخدمة .
و اعتبر الحادث نجاحاً فائقاً لكرمي غيلون قائد الشاباك الذي كانت معنويات جهازه في الحضيض بعد الفشل في حماية رئيس الوزراء إسحاق رابين الذي مات قبل أن يسعد بخبر قتل المهندس .
و إذا عدنا إلى الشهادة النادرة على تلك المرحلة التي كتبها حسن سلامة ، فإنه يشير إلى أن الشهيد عياش كان (حريصاً على أمنه الشخصي لكن الذي حدث هو قدر الله ، و لكن لا أنفي التقصير من الجميع ، فالجميع يتحمّل ما حدث ، و المعروف أن حياة المجاهد عبارة عن سلسلة مغامرات يسلكها بعد أخذ جميع الاحتياطات اللازمة و مستعيناً بالله قبل كل شيء ، و هذا ما تم و ما توصل إليه المهندس و تم تحديد الموعد و المكان الفاصل بين القطاع و الأرض المحتلة بعد التجهيز لكلّ الأشياء التي تساعده على الوصول بسلام حسب التخطيط و لكن قدر الله هو الغالب ، فليلة الاستشهاد كان الشهيد يسير طوال الليل يراقب الحدود و المكان الذي سيخرج منه و يراقب تحرّكات الجيش و الدوريات الصهيونية ، و بعد صلاة الصبح كان له موعد في غزة في البيت الذي استشهد فيه و هو انتظار مكالمة من أبيه في الضفة و في نفس اليوم أخبره المطاردون الذين معه و نصحوه بعدم الذهاب إلى ذلك المكان لأنهم غير مرتاحين لفكرة الاتصال و لكنه أصر على الذهاب و رفض أن يصحبه أحد ، و ذهب إلى حيث قدره الذي ينتظره ، لنسمع بعد وقت قصير ، ساعتين ، من خروجه نبأ استشهاده ، و للاستشهاد قصة يطول شرحها و ليس الآن وقت سردها ، و دفن الشهيد و ليعود المطاردون بأحزانهم و جراحهم التي كانت أكبر من التصوّر و لتدور نقاشات كلها كانت نابعة من شدة الحدث و عدم إمكانية تصديقه ، و طغى فقدان الشهيد على كل المواضيع التي كانت تطرح سابقاً من أجل وضع المطاردين ، كان الجميع يتحدث عن الثأر ، و ليس سوى الثأر مهما كانت الظروف و التضحيات لأن الضربة كانت قوية كادت أن تشلّ الجميع دون استثناء) .
و أوفى رفاق عياش الذين عملوا في ظروف غير مواتية بتاتاً ، بما قطعوه على أنفسهم و نفّذوا عمليات ثأرية لمقتل عياش هزّت (إسرائيل) ، و لكنهم تعرّضوا لعدة ضربات كانت قاسمة منها مقتل العديد منهم كمحي الدين الشريف و الأخوان عماد و عادل عوض الله ، في ظروف تستعدي أفراد بحث مستقل عنها في مكان آخر .