سم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
أما بعد:
تأملت في حالي وحال كثير من الناس:
- لماذا نخسر رمضان؟
- لماذا نضيع هذه الجوائز الكبيرة؟
- لماذا نفرط في هذه الكنوز الثمينة؟
- لماذا لا نقدر شهر رمضان حق قدره؟
وقد لاح لي من أسباب ذلك ما يلي:
أولا: اتباع الهوى والشهوات.
واتباع الهوى سبب كل فساد وغي لأنه يعمي عن الحق معرفة وقصدا ويورث الضلال
والانحراف عن كل استقامة ورشد. والهوى هو ميل النفس إلى الشهوة. وسمي بذلك
لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية كما قال
الراغب.
فصاحب الهوى والشهوات لا صبر له على طاعة ولا همة له على نيل المطالب
العالية, ولذلك فإنه دائما يحوم حول الدنايا كما قال تعالى: {وَلَكِنَّهُ
أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الاعراف : 176]
أي مال إلى الدنيا وركن إليها وأصبح لا هم له إلا الدنيا. ولذلك قيل: "عبد الشهوة أذل من عبد الرق".
ثانيا: التسويف وطول الأمل.
والتسويف من نتائج طول الأمل, فيسوف في التوبة, ويؤخر الاستقامة, ويقول
غدا سأتوب, العام القادم سأجتهد في رمضان, لا زلت صغيرا والعمر أمامي ولا
يدري المسكين أنه ربما حانت منيته وهو لا يدري.
قال ابن الجوزي: "كم قد خطر على قلب يهودي ونصراني حب الإسلام, فلا يزال
إبليس يثبطه ويقول: لا.. تعجل, وتمهل في النظر, فيسوفه حتى يموت على كفره.
وكذلك يسوف العاصي بالتوبة, فيعجل له غرضه من الشهوات, ويمنيه الانابة كما
قال الشاعر:
تعجل بالذنب لما تشتهي ** وتأمل التوبة من قابل
والموت يأتي بعد ذا بغتة ** ما ذاك فعل الحازم العاقل
وكم من عازم عل الجد سوفه, وكم من ساع إلى فضيلة ثبطه" (تلبيس إبليس).
وطول الأمل دليل عل جهل العبد وجراءته عل ربه, لأن المعاصي تبغض العبد إلى
الله, وتبعده عن طريق التوبة, وتحرمه التوفيق للاستقامة حتى يفاجئه الموت
وهو على حال التفريط والعصيان.
قال ابن الجوزي: "يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدا, ولا
يغتر بالشباب والصحة, فإن أقل من يموت الأشياخ, وأكثر من يموت الشباب, وقد
أنشدوا:
يعمر واحد فيغر قوما ** وينسي من يموت من الشباب" (صيد الخاطر).
ثالثا: فساد الصحبة.
وكم جلبت الصحبة السيئة من نقمة, ودفعت من نعمة؟ وأنزلت من محنة, وعطلت من
منحة؟ وأحلت من رزية وأوقعت في بلية؟ فكم انتكس أناس كانوا صالحين بسبب
التهاون في شأن الصحبة! وكم ضل أقوام بعد هدى بسبب الصحبة والله تعالى
يقول: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴿٢٧﴾ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ
أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴿٢٨﴾ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ
بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا}
[الفرقان : 27-29] .
وقال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
وقال صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله, فلينظر أحدكم من يخالل» [رواه الصعدي والزرقاني والعسقلاني وحسنه الألباني]
وقال صلى الله عليه وسلم«لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي» [رواه الترمذي والبغوي والصعدي وحسنه الألباني].
فالمؤمن إن صاحبته نفعك وإذا شاورته أشار عليك بالسداد, وإن استنصحته
نصحك, وإن احتجت إليه بذل لك معروفه, وإن طلبته معينا لك على الخير أعانك.
أما الفاجر فلا خير فيه, فصحبته ضرر وهلاك وفساد للدين والدنيا.
رابعا: كثره النوم.
قال ابن القيم: "فإنه يميت القلب, ويثقل البدن, ويضيع الوقت". ويورث كثرة الغفلة والكسل.
وفي رمضان جهادان: جهاد بالنهار على الصيام, وجهاد بالليل على القيام, فمن
نام معظم ساعات النهار فاته جهاد النهار وهو الصيام, ومن نام معظم ساعات
الليل أو سهرعلى المحرمات أوالمباحات فاته جهاد الليل وهوالقيام.
خامسا: السهر الطويل.
من الناس من أضاع رمضان بسبب سهره معظم ساعات الليل, وبعضهم ينام قبل
الفجر بدقائق وبعضهم لا ينام إلا بعد الفجر، ولكنهم جميعا يضيعون معظم
ساعات النهار في النوم ويضيعون كذلك صلاة الظهر والعصر ولا يستيقطون إلا
قبيل المغرب, فأي صيام هذا؟
لو كان سهر هؤلاء في طاعة وقيام ليل لقلنا لهم: ليس هذا من هدي النبي صلى
الله عيه وسلم, هؤنوا على أنفسكم, فإن لأبدانكم عليكم حقا، فكيف وسهرهم
على المحرمات, والتنقل بين القنوات, والحديث الذي لا يخلو من غيبة أو
نميمة, مما يجعل القول بتحريم هذا السهر هو القول الصحيح الذي لا مرية فيه.
وقد ذكر ابن القيم أن السلف كانوا يكرهون النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس, لأنه وقت الأجور والأرباح ونزول الأرزاق، وحلول البركة.
سادسا: كثره الطعام والشراب.
من عجائب شهر رمضان في هذا الزمان أن كثيرا من الناس يخرجون من الشهر وقد
زادت أوزانهم عما كانت عليه قبل شهر رمضان والسبب هو كثرة الطعام والشراب
وقد ذكرت إحدى الدراسات أن معدل الاستهلاك يزيد في بلادنا بنحو 40 % عما
هو عليه في غير شهر رمضان, وهذا مؤشر خطير يدل على تحكم العادات وغياب
المفاهيم والحكم والدلالات الشرعية لكثير من العبادات.
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن الإسراف في الحلال, والشبع المفرط يثقل
عن الطاعإت، ويشغل الإنسان في تأمين الطعام والشراب, حتى يظفر به, فإذا
ظفر به شغله بتصريفها ووقاية ضررها والتاذي بثقلها فمن أكل كثيرا شرب
كثيرا, فنام كثيرا, فخسر كثيرا, وفي الحديث المشهور:
«ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا
محالة: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه» [صححه الألباني].
ويحكى أن إبليس -لعنه الله- عرض ليحيى بن زكريا فقال له يحيى: هل نلت مني
شيئا؟ قال: لا, إلا أنه قدم إليك الطعام ليلة فشهيته إليك حتى شبعت منه,
فنمت عن وردك. فقال يحيى: لله علي ألا أشبع من طعام أبدا. فقال إبليس:
وأنا لله علي أن لا أنصح آدميا أبدا.
وقال لقمان لابنه: "إذا ملئت المعدة, نامت الفكرة, وخرست الحكمة, وقعدت
الأعضاء عن العبادة". وقيل: "الدنيا بطن, وعلى قدر زهدك في بطنك زهدك".
سابعا: الغفلة عن محاسبة النفس.
فمحاسبة النفس تبصر الإنسان بعيوبه, وتظهر له الأخطار التي تنتظره وتتربص
به, ولذلك قال الحسن: "لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: ماذا أردت تعملين
وماذا أردت تأكلين وماذا أردت تشربين. والفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه".
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ
نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّه إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد
تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه".
وقال قتادة في قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]: "أضاع نفسه وغبن, تراه حافظا لماله, مضيعا لدينه".
فمن أعظم أسباب خسارة رمضان الغفلة عن محاسبة النفس وإحسان الظن بها. قال
مالك بن دينار: "رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة
كذا؟ ثم زمها, ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله وعزوجل, فكان لها قائدا".