باب صلاة الجماعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام البعلي -رحمه الله تعالى -:
بابٌ
الجماعة واجبة على الرجال للخمس، وفي مسجد لا تقام إلا بحضوره أفضل، ثم الأكثر جماعة العتيق ثم الأبعد ثم البيت، ولا يؤمن قبل راتب بغير إذنه إلا إن تأخر لعذر، فإن لم يعلم انتظر وروسل ما لم يخش خروج الوقت، فإن صلى ثم حضر جماعة أعادها معهم، وشفع المغرب برابعة وتعاد في غير الثلاثة مساجد، ولو سبق إمامه بركن فلحقه فيه أو رفع فأتى به معه فلا بأس، وسبقه بركنين مبطل.
--------------------------------------------------------------------------------
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
هذا الفصل يتعلق بصلاة الجماعة، وهي أن يجتمعوا ويصلي بهم واحد منهم، والجمهور على أنها واجبة يعاقب من تركها بغير عذر، وما روي عن بعض الأئمة أنها سنة هو قول غريب .
وذهب بعض الأئمة وبعض العلماء أنها شرط، وأن من صلى وحده لا تصح صلاته إذا كان قادرا على أن يصلي مع الجماعة .
وقد دل على فرضيتها أو وجوبها الكتاب والسنة، وقد استدل ابن القيم بكتاب الصلاة على وجوبها بقول الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ اركعوا مع الراكعين، أي: لا تركع وحدك، اركع مع غيرك من المصلين، ويراد بالركوع هاهنا جنس الصلاة؛ لأنه تطلق على الصلاة أنها أربع ركعات، مع أنها أربع ركعات وثمان سجدات وأربع جلسات وتشهدان وأربع قيامات، ولكن أطلقت الركعة على جزء من الصلاة.
فقوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أي: صلوا مع المصلين، أي: اجتمعوا معهم.
ومن الأدلة على وجوبها: قول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ يدعون يعني: يدعوهم المؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهم سالمون قادرون فلا يأتون، فعوقبوا في الآخرة بأن حيل بينهم وبين السجود، إذا أراد أحدهم السجود انقلب على ظهره، فدل ذلك على أن من دعي إلى السجود، يعني: إلى الصلاة ولم يأت يخاف أن يحال بينه وبين السجود في الآخرة، وأولئك هم المنافقون .
فهذه من الأدلة القرآنية، ويمكن أن يوجد أدلة أخرى، وأما السنة فالأحاديث فيها كثيرة؛ منها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى أناس لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار .
لولا ما فيها من النساء والذرية همّ أن يحرق عليهم بيوتهم، وفي بعض الروايات عند أبي داود: إلى أناس يصلون في بيوتهم فدل على أنهم يصلون، ولكن يتركون الجماعة، فعوقبوا بأن استحقوا العذاب الدنيوي، ولا تحرق عليهم بيوتهم إلا وهم تاركون للواجب، فدل على وجوب صلاة الجماعة.
وكذلك جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر يعني: يسمع النداء، ومع ذلك لا يأتي إلى الصلاة، فلا صلاة له إلا من عذر .
وفي حديث الأعمى: رجل كان ضرير البصر وشاسع الدار بينه وبين المسجد نخل وواد، ليس له قائد يلائمه، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل تسمع النداء؟ قال: نعم . قال: فأجب وفي رواية: لا أجد لك رخصة ولو كان هناك رخصة أن يصلي أحد في منزلة وهو يسمع النداء لرخص لهذا الرجل ضرير البصر بعيد الدار بينه وبين المسجد نخيل وأودية كثيرة الهوام ونحوها، وليس له قائد يلائمه، أمره أن يجيب المنادي الذي هو المؤذن، ولم يجد له رخصة.
ثم إن الذين يتساهلون في الصلاة، إذا احتج عليهم بهذه الأحاديث يقولون: لماذا ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الجماعة، وأمر رجلا يصلي بالناس؟
الجواب أنه تركها لعذر، أراد أن يأتي هؤلاء في حالة الصلاة التي لا عذر لهم فيها، وأيضا فإن معه جماعة إذا صلى الأولون جاءه من معه وصلوا جماعة أخرى، فيكونون قد حصلوا على الجماعة. واستدلوا أيضا بحديث الفضل، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة وفي رواية: بخمس وعشرين جزءا وهذا قد يستدل به على الوجوب؛ وذلك لأنه إذا فاته هذا الفضل الكبير، فاته سبع وعشرون أو خمس وعشرون دل على أنه ترك واجبا، ترك شيئا واجبا يعاقب عليه، ولو حصل له شيء من الثواب يعني: درجة واحدة جزء واحد لكان الذي فاته أعظم، الذي فاته كونه فاته سبع وعشرون أو خمس وعشرون، يدل على أنه مصاب بمصيبة كبيرة. لو أن إنسانا يتعاطى التجارة، وكل يوم يخسر في تجارته خمسة وعشرين دينارا لكان ذلك خسرانا مبينا يعض عليه يده على هذه الخسارة .
ولذلك المختار أنها جماعة، ولكن لو صلى وحده لا نأمره بالإعادة، ولكن نقول: فاتتك الجماعة وفاتك الخير وأثمت بهذا التأخير .
يختار المؤلف أنها واجبة يقول: (الجماعة واجبة على الرجال للخمس )، والواجب ما يعاقب على تركه، يثاب على فعله احتسابا، ويعاقب على تركه تهاونا .
وجوبها على الرجال، أما النساء فإن بيوتهن خير لهن، تجب للصلوات الخمس، وأما النوافل فإنها لا تجب، بل جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة يعني: النوافل أفضل أن يصليها في بيته إلا الصلوات المكتوبة المفروضة، فإنها واجبة على الرجال، أما أكثر صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- النوافل في بيته كسنة الظهر قبله أو بعده، وسنة المغرب بعده، وسنة العشاء بعده، وسنة الصبح وقيام الليل وتهجده، وصلاة الضحى، من أراد أن يتطوع فالبيت أفضل، وما ذاك إلا أنه يصلي منفردا، ولأنها أقرب إلى الإخلاص .
يقول: (وفي مسجد لا تقام إلا بحضوره أفضل) إذا كان هناك مسجد، والذين حوله عامة ليس عندهم من يؤمهم إذا حضرت أنت، وأنت قارئ صلوا جماعة، وإذا لم تحضر صلوا في بيوتهم، أو صلوا متفرقين، لا يعرفون القراءة، ولا يعرفون كيفية الصلاة، صلاتك بهم أفضل من صلاتك في مسجد آخر، ولو كان بعيدا، حيث أنك تكون سببا لاجتماعهم، وسببا في قبول صلاتهم، وسببا في مضاعفاتها، وإذا تخلفت فلا يجتمعون، بل يصلون فرادى أو في بيوتهم، والمسجد عامر وحوله أناس يحبون أن يصلوا فيه، ولا يجدون من يؤمهم .
الأفضل بعد ذلك الأكثر جماعة، إذا كان عندك مسجدان أو ثلاثة أحدهما جماعته صف، والثاني جماعته صفان، والثالث جماعته ثلاثة صفوف، تختار الأكثر. جاء في حديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده يعني: إذا لم يجد جماعة وصلى وحده، وصلى معه واحد أفضل من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أفضل من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أفضل عند الله، يعني: صلاته مع مائة أفضل من صلاته مع تسعين، صلاته مع مائتين أفضل من صلاته مع مائة وخمسين، كلما كان أكثر جماعة؛ وذلك لأن في اجتماعهم تحصل الألفة، وتحصل الحكمة؛ لأن هذه الجماعة للرجال شرعت لأجل التعارف والتآلف، فإن أهل الحي إذا صلوا كل يوم خمس مرات في مسجدهم تعارفوا، هذا يعرف جاره، وهذا يعرف جاره الثاني ثم يعرف الثالث والرابع حتى يتعارفوا، وفي هذا التعارف جمع للكلمة، وفيه أيضا تعاون على الخير، وفيه أيضا تفقد لأحوال المسلمين، بحيث أنهم إذا كانوا يعرف بعضهم بعضا، ثم حصل أن فقدوا واحدا يوما أو يومين سألوا عنه: أين فلان؟ فقدناه في هذا المسجد، ما عذره؟ أين هو؟ فيسألون عنه إن كان مريضا يعودنه ويسلونه، ويحثونه على البصر، إن كان عاجزا عن سترة عن كسوة، أو نحو ذلك جمعوا له وهكذا فيكون في ذلك تعارف .
وكذلك تفقد أحوالهم يقولون: فلان ذو حاجة نتبرع له ونسد حاجته، وفلان جاهل نوجهه ونعلمه .. وهكذا، فاجتماع أهل الحي في مسجدهم أولى سيما إذا كانوا متكاثرين، إذا كانت المساجد سواء هذا المسجد فيه صفان، وكذلك الثاني وكذلك الثالث، فأيها أفضل ؟
المسجد العتيق وهو القديم؛ لأن العبادة فيه قديمة، فهو مسجد تألفه الملائكة منذ القدم، فيكون أفضل فإذا كانوا كلها سواء في القدم، فأيها أفضل؟ يفضل الأبعد . البعيد أفضل من القريب، لماذا؟ لكثرة الخطأ جاء عن - يقول بعض الصحابة: كان رجل لا أعلم أحدا أبعد منزلا منه، وكانت لا تخطئه الصلاة فقيل له: لو اشتريت حمار تركبه في الليل في الظلماء، فقال: ما أحب أن منزلي إلى جانب المسجد؛ لأني أريد أن يكتب لي مجيئي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد كتب لك ذلك" .
يعني: خطواته من بيته إلى المسجد ثم رجوعه من المسجد إلى بيته تكتب له، وفي حديث أن البقاع خلت حول النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى المسجد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: دياركم تكتب آثاركم أي: الزموا دياركم حتى تكتب خطواتكم إلى المسجد، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ أي: نكتب تقدمهم إلى المساجد، ونكتب أيضا خطواتهم من بيوتهم إلى المساجد، ولما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- وجوب الصدقة في كل يوم عن أعضاء الإنسان: يصبح على كل سلامى من الناس صدقة يعني: عن كل مفصل، ثم قال: تعدل بين اثنين صدقة، وإن لكم بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وبكل خطوة تخطوها إلى المسجد صدقة بكل خطوة تخطوها إلى المسجد صدقة.
ولذلك يستحب أن يقارب بين خطواته، يأتي مبكرا ثم يقارب بين خطواته، ولو كانت خطواته ألف خطوة فإنها تكتب له تكتب له صدقات؛ لأنه تصدق بقدر هذه الألف أو نحو ذلك .
وكذلك أيضا كان -صلى الله عليه وسلم- يحث على التقدم إلى المساجد، وعلى كثرة الخطا إليها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط، فذلكم الرباط كثرة الخطا إلى المساجد يرفع الله تعالى بها الدرجات، فيكفر الله بها الخطايا، فهذا هو السبب في أنه يستحب الأبعد. وأما قوله: ثم البيت، يعني: إذا لم يكن عنده مسجد، فيجوز أن يجمع الجماعة الذين حوله، ويصلي بهم في أحد منازلهم .
يكثر في بعض الأحياء لا يبنون مسجدا، أو لا يوجد عند أحدهم مسجد، فيقال: عليكم أن تصلحوا ولو مظلة تصلون فيها، أو يتبرع أحدكم بجزء من بيته يؤذن فيه ويأتي إليه الجيران فيصلون فيه جماعة، ولا يجوز أن يصلي كل منهم في بيته وهم يقدرون على أن يجتمعوا.
يقول: (ولا يؤمن قبل راتب بغير إذنه)، المراد: الإمام الراتب الذي هو إمام في هذا المسجد، فلا يجوز ولو كنت أقرأ منه لا يجوز أن تصلي بهم بغير إذنه، أما إن قدمك فإن الحق له وقد تنازل، فإذا تأخر وخيف أن يمل المصلون جاز أن يصلي غيره، سيما إذا عرف أنه تأخر لعذر، وإذا عرف بأنه لا عذر له ينتظر، إذا حدد الانتظار للصلاة مثلا بثلث ساعة وتأخر فإنه ينتظر خمس دقائق أو عشر دقائق حتى يأتي؛ لأنه أحق بمسجده، والأولى أن يرسل إليه، يراسل يرسل إلى بيته، فربما أنه نائم أو نحو ذلك أو له عذر حتى يأذن إلا إذا خيف أن يخرج الوقت، ما لم يخش خروج الوقت، إذا خيف مثلا أن يخرج وقت الفجر بطلوع الشمس أو وقت المغرب بخروج الشفق أو نحو ذلك، فإنه - والحال هذه - يصلي غيره؛ اغتناما للوقت.
إذا أتيت إلى المسجد وصليت منفردا، ثم جاء جماعة يصلون صل معهم، اجعلها نافلة، وكذلك لو صليت في رحلك تعيدها مع الجماعة؛ جاء في حديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الفجر في مسجد الخير بمنى، فرأى رجلين في ناحية المسجد لم يصليا، فأمر بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما -أي: خائفين- فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: قد صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما المسجد فصليا معهم تكن لكما نافلة .
ولو كان وقت نهي، فإن هذه صلاة فجر، يمكن أنهما صليا مبكرين، ويمكن أنهما صليا مع جماعة في رحلهم، ويمكن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- آخر صلاة الفجر؛ لأجل أن يجتمعوا في هذا المسجد -في مسجد الخير، فلما انصرف رآهما لم يصليا، فقال: إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما المسجد فصليا معهم تكن لكما نافلة .
كره بعض الأئمة والعلماء تتبع المساجد، يعني: إذا صليت مبكرا في هذا المسجد، فلا تقل: سوف أذهب إلى المسجد الثاني الذي يتأخر، وأصليها معهم، ثم صليت معهم، ثم تقول: سوف أذهب إلى المسجد الثالث أيضا، وإني سأدرك الصلاة معهم أيضا؛ لأن هذا لم يكن من فعل السلف، بل تكتفي بصلاتك الأولى، لكن لو أتيت لغرض كما لو صليت بمسجدك -مسجد يبكر، وأتيت لهذا المسجد؛ لأجل حضور درس أو محاضرة، فإنك تصلي معهم، ولو فاتك بعض الجماعة، فلو صليت هناك جماعة، وأتيت هؤلاء وقد صلوا ركعتين ادخل معهم وصل ركعتين، ثم إذا سلموا فقم وأت بركعتين، هكذا الحكم، تصلي ركعتين معهم وركعتين بعدهم عصرا أو نحو ذلك.
إذا كانت الصلاة وترا كالمغرب، إذا صليت المغرب في مسجد وجئت إلى هذا المسجد وهم يصلون، وأدركت الصلاة معهم المغرب، فإنك تشفعها بركعة، إذا صلوا ثلاثة وسلموا، قم واشفع بركعة لئلا تصلي المغرب مرتين فتكون شفعا، إذا صليت ثلاثا هناك وهنا ثلاثا أصبحوا سبعا يعني: ستا، والمطلوب أن تختم النهار بوتر؛ لأن المغرب وتر النهار، ولهذا لا تقصر الصلاة في السفر، يشفعوا المغرب بركعة .
يقول: (وتعاد في غير ثلاثة المساجد)، والصحيح أيضا أنها تعاد في الثلاثة، أي: المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي .
قوله: (وتعاد في غير الثلاثة مساجد) هذا هو القول الصحيح، ذهب الشافعية والحنفية إلى أنها لا تعاد، والأصحاب استدلوا على إعادتها بقصة ذلك الرجل الذي دخل بعدما صلوا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: من يتصدق على هذا، فقام أبو بكر فصلى معه أليس هذه إعادة؟ هذا بلا شك دليل على أنها تعاد، وكذلك لو صلى وحده لم يحصل له إلا جزء من خمس وعشرين جزءا، فإذا صلى معه آخر حصلت له الجماعة .
روي ابن ماجه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: اثنان فما فوقهما جماعة وبوب على ذلك البخاري بابٌ اثنان فما فوقهما جماعة، واستدل بحديث مالك بن الحويرث، وفيه: إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما فدل على أن الاثنين يصليان جماعة، فعلى هذا إذا دخلتما وأنتما اثنان فصليا جماعة، وكذلك إذا دخل ثلاثة أو أربعة أو عشرة بعد أن صلى أهل الجماعة الأولى، فإنهم يصلون جماعة، ولا يصلون فرادى؛ اغتناما لفضل الجماعة، لما ذكرنا أن فضل الجماعة خمس وعشرون أو سبع وعشرون درجة، يفوت ذلك من صلى وحده .
تشاهدون الحنفية من الباكستانيين والهنود ونحوهم إذا صلينا الجماعة، وجاءوا اثنان ثلاثة عشرة صلى كل واحد وحده، يصلي هذا وحده وهذا وحده، يقولون: هذا مذهب أبي حنيفة، وكذلك مذهب الشافعي، فيفوتهم فضل الجماعة. تكلم الفقهاء على هذه المسألة، وشدد بعضهم، وقالوا: لا تعاد، لا يصلى في المسجد الواحد جماعتان، بمعنى جماعة ثم جماعة، وقالوا: مخافة أن بعض الناس يجلسون في بيوتهم حتى تصلى الأولى، ويقولون: إذا فاتتنا الأولى أدركنا جماعة أخرى، فصلينا معهم، هكذا يعللون، فالجواب أن هذا ليس بعذر، ونقول أيضا: لا شك أن الجماعة الأولى التي يصلي بها الإمام الراتب أكثر أجرا، حيث أنهم هم الأولى، وهم الذين أذنوا وأقيم لهم، ولكن الجماعة الثانية لا نحرمها من أجر الجماعة، وكذا لو صلوا جماعة ثالثة، لو صلى الأولون وفرغوا، ثم جاء جماعة وصلوا وهم ثلاثة أو عشرة فصلوا وتفرقوا، ثم جاء جماعة ثالثة وصلوا، لا نحرمهم أجر الجماعة، يحصل لهم أجر الجماعة، ذكرنا قريبا قوله -صلى الله عليه وسلم-: صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أفضل من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أفضل عند الله، فهذا دليل على أنكم إذا جئتم، وقد صلى الجماعة فإنكم تعيدون جماعة أخرى، ولكم أجر الجماعة، وإن كان ذلك أقل من الجماعة الأولى، هكذا هو قول الجماعة، قول الأئمة المقتدى بهم .
يختار المؤلف أن الحرمين أو المساجد الثلاث لا تعاد فيها الجماعة، بل إذا جئت وقد صلى الناس في المسجد الحرام، وأنتم اثنان صلى كل واحد منكم وحده، والصحيح أنكما تصليان جماعة، أو تصلون جماعة، وما ذاك إلا أنه حرص على تحصيل فضيلة الجماعة في أي المساجد .
ثم نقول: مع الأسف أن كثيرا من الناس يجلسون في بيوتهم، وإذا سمعوا الإمام قد سلم صلوا في بيوتهم، وقالوا: قد فاتتنا الصلاة، أو يقول أحدهم: أخجل أن آتي فيستقبلوني الناس . نقول: لا تخجل ولا يخجل الثاني، إذا أتيت أنت، وأتى الثاني والثالث والرابع واجتمعتم جماعة، فأديتما صلاة الجماعة، فهو أفضل من صلاتكم في بيوتكم . قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: صلاة الرجل في جماعة أفضل من صلاته في بيته، وفي سوقه بخمس وعشرين جزءا وصلاتك في بيتك وإن كانت جزءا يسيرا يفوتك هذا الخير، احضر وصل مع الجماعة الثانية ولك أجر الجماعة .
تكلم بعد ذلك على مسابقة الإمام، لو سبق إمامه بركن فلحقه فيه أو رفع فأتى به معه فلا بأس. وصورة ذلك إذا ركع الإمام وأنت قائم ثم ركعت وأدركته أجزأتك، أو وقفت ثم رفع الإمام وأنت واقف فركعت بسرعة، ثم أدركته في الرفع أدركته في الرفع أجزأ ذلك؛ لأنك تكون متابعا له .
وسبقه بركنين مبطل للصلاة، صورة ذلك ركع الإمام وأنت واقف، ثم رفع وأنت واقف، ثم سجد وأنت لا تزال واقفا، فاتك من هذه الركعة ركنان: الركوع والرفع، بطلت هذه الركعة، بطلت ركعتك؛ لأنك لم تتابع الإمام فيها، فتقضي ركعة.
ونيته معه عند التحريم، أي: نية هذين الركنين بشرط إذا أراد أن يقضي ركعة فإنه ينوي أن هذه بدل الركنين، أي: بدل الركعة التي ترك منها ركنين، فيشترط أن ينوي ذلك، ثم ننبه إلى أن كثيرا يسابقون الإمام، ومسابقة الإمام عند بعض العلماء تبطل الصلاة، وقد كتبت مقالة أو صفحة ذكرت فيها أحوال المأمومين مع الإمام، وأن للمأموم مع الإمام أربع حالات:
المسابقة والموافقة والمتابعة والمخالفة: فالمسابقة أن يركع قبل إمامه، فهذه عند الإمام أحمد قد تبطل الصلاة. الفقهاء يقولون: إذا ركعت والمأمومون قائمون لزمك أن ترفع وتأتي بالركوع بعدما يركع الإمام؛ وذلك لأن المسابقة كان الإنسان ليس مع المأموم ليس بمأموم، وكذلك لو ركع مع الإمام ورفع قبله فإنه يعتبر سابقه، لو رفع قبله ثم رفع الإمام فلحقه لزمه أن يعيد الركوع، ثم يرفع بعد الإمام، يرفع بعده حتى يكون متابعا أو مؤتما، وقد تكلم على مسألة المسابقة الإمام أحمد -رحمه الله- في رسالته التي تسمى: الرسالة السنية، وأورد أحاديث كثيرة بوجوب المتابعة وتحريم المسابقة والعقوبة عليها، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار ونقل عن ابن عمر رأى رجلا يسابق الإمام، فقال له: (لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت)، وكذلك قال ابن مسعود، وضربه ابن مسعود وقال: (أعد الصلاة)، دل على أنه لا صلاة له، حيث أمره أن يعيد الصلاة، وكذلك أيضا استدل بالحديث الذي فيه: الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم يعني: أنكم تابعون له، وبقوله صلى الله عليه وسلم: لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف وبقوله: إذا كبر الإمام فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، ولا تركعوا حتى يركع .
الأحاديث كثيرة لا نطيل بها، في إمكانك مراجعة هذه الرسالة، وهي رسالة مفيدة -الرسالة السنية للإمام أحمد، ننصح بقراءتها مرة بعد مرة، وقد طبعت مرارا، ثم الحالة الثانية الموافقة، وهو أن يوافق الإمام، بمعنى: أنه يركع مع الإمام سواء، فهذه قد تنقص الصلاة؛ لأن الإمام يؤتم به: إنما جعل الإمام ليؤتم به .
الحالة الثالثة المتابعة، وهذه هي السنة، أن يقف المأموم حتى يركع الإمام، وينتهي من حركته، وينقطع صوته، ثم بعد ذلك يتبعونه إذا انحنى وركع وانتهى من التكبير لحقوه وأدركوه، قد يسبح قبلهم بقوله: (سبحان ربي العظيم) مرة، وهم إذا رفع بقوا إلى أن يتم رفعه، ويقول: (سمع الله لمن حمده) وينتهي من التسميع وهم ركوع، وبعد ذلك يتبعونه .
نلاحظ أن كثيرا ساعة ما يتحرك الإمام للرفع، يرفعون قبل أن ينتهي من التسميع، يعتبر هذا مسابقة .
الحالة الرابعة: المخالفة وهي التأخر، ذكر أنه إذا تأخر بركنين بطلت الركعة، فعليه أن يأتي ببدلها.