الهجرة النتبويه
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونسترشده ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
هجرة النبوية أيها الإخوة لم تكن هروبًا من قتال ولا جبنًا عن مواجهة ولاتخاذلاً عن إحقاق حق أو إبطال باطل ولكن هجرة بأمر الله تعالى أعد فيهاالنبي القائد صلوات ربي وسلامه عليها العدة وهيأ الجند وعاد بهم إلى مكةفاتحًا، أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوذي أصحابه الكرام في مكةوصبر ءال ياسر في سبيل الله، ورسول الله هاجر بالدعوة إلى الله فلم يكنيخفي شيئًا منها بل كان يدور في المواسم التي يجتمع فيها الناس ويقوللهم:" أيهـا النـاس قولـوا لا إلـه إلا الله تفلحوا " وصبر صلى الله عليهوسلم على إيذاء المشركين من أهل مكة، وانصب العذاب على المستضعفين صبًاجلد وضرب وحبس وتحريق وقتل، ولكن أدركهم المدد الرباني والتثبيت الإلـهيفكأنهم صخرة لا تخدش وصارت نبضات قلوبهم الخاشعة وهمسات أدعيتهم الضارعةتهز الأفئدة والعروش، أليس ردد بلال الحبشي أحد أحد، أحد أحد؟لم يتراجعولم ينفتن.
و شاء الله ان تكون الهجرة النبوية هي الحدث الثاني المهم بعد البعثةالنبوية الكريمة ونزول القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،ومن ينظر بعمق في خطوات الهجرة النبوية وترتيباتها يلاحظ انها لم تتمبصورة عفوية ولا بتحرك عشوائي او مجرد رغبة في الخروج او الهروب من مكةالمكرمة، ولكنها كانت نقلة استراتيجية مهمة حرص فيها رسول الله، صلى اللهعليه وسلم، على حماية الدعوة بعد ان اشتد الضغط عليها في مكة المكرمة،وازداد عناد قريش وظلمها وقسوتها عليه وعلى اتباعه رضوان الله عليهم، حتىامعنت فيهم تعذيبا وظلما بدون وجه حق، فكان لا بد من الانتقال الى مكانأمن آخر يسمح للدعوة بأن تتنفس الصعداء، فجاء امر الله عز وجل الى رسولالله صلى الله عليه وسلم، وكان الاذن بالهجرة، ولكن المتتبع لمراحل الهجرةالنبوية يلاحظ ان النبي، صلى الله عليه وسلم، احاطها بسرية كاملة، حرصفيها على ألا يعلم احد بموعد الهجرة ولا طريقها، ولا وجهتها، واخفى كل ذلكحتى عن اقرب المقربين له سيدنا ابي بكر الصديق، رضي الله عنه، الرجل الذيوقف معه وآمن به وآزره، وأحبه حبا عظيما. وكان هذا الصحابي الجليل اول منآمن من الرجال برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبدعوته، ومع ذلك اخفىالنبي، صلى الله عليه وسلم، خطة الهجرة وخطواتها عنه وعن الجميع، وهو بهذايعلم الأمة كيف يتصرف القائد عندما يتصدى لحدث مهم، او ينتقل الى مرحلةأخرى، وكأننا به يعلمنا ويعلم الأمة: «استعينوا على قضاء حوائجكمبالكتمان»، فأحاط ترتيبات الهجرة بسرية تامة، وعندما بدأ يتحدث الى ابيبكر الصديق، رضي الله عنه، في المرحلة الأخيرة، انما كان يوجهه حتى يعدلوازم الرحلة وأدواتها من رفيق خبير بالطريق، وراحلة تنقل النبي، وأخرىتنقله ثم اخبره في آخر الأمر بموعد الرحلة وطريقها، وأنها كانت الىالمدينة المنورة بإذن الله وأمره.
وهكذا خطط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتمها على افضل وجه، وهوالذي يعلمنا: «ان الله يحب اذا عمل احدكم عملا ان يتقنه». هكذا تحرك سيدنامحمد، صلى الله عليه وسلم، بطريقة سرية واستراتيجية ومسؤولية، وعندما جاءالاذن وجاء الأمر اخبر الصديق في الوقت الملائم.
ولا شك ان المتتبع لمراحل الهجرة يدرك ان رسول الله، صلى الله عليه وسلم،لم يغادر مكة المكرمة التي احبها وولد ونشأ وترعرع بين جنباتها الا بعد اندعا الله عز وجل: «اللهم، وقد اخرجتني من أحب البقاع الى، فاسكني في احبالبقاع اليك»، فكانت الهجرة الى يثرب المكان الذي اختاره الله سبحانهوتعالى لهذه الهجرة، واصبح اسمها بعد ذلك المدينة المنورة والتي اشرق فيهانور الاسلام بوصول خير الأنام اليها، هذا المكان الطيب الطاهر الكريموالمهاجر الأمين الذي اختاره الله عز وجل لرسوله، صلى الله عليه وسلم.
وتبقى الحقيقة الأساسية، وهي أن الهجرة مراد الله وأمره وتدبيره عز وجل.هذه هي الصورة المشرقة لصمود رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والذين معهرضوان الله عليهم. وهناك قضية مهمة وهي ان الهجرة الى المدينة لم تكن مجردتحرك عشوائي او تصرف عابر او خروج او هروب من مكة، لكنها كانت نقلةاستراتيجية مهمة حرص فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أن يحميالدعوة بعد أن اشتد الضغط عليها في مكة المكرمة وازداد الإرهاب والظلموالقسوة على أتباعه رضوان الله عليهم.
ولا شك أن العامل الآخر هو أن المدينة المنورة قد بدأت تستقبل الإسلام،ودخل فيه واعتنقه عدد من اهلها. وكان هذا الأمر مهما شجع رسول الله، صلىالله عليه وسلم، على التوجه إلى المدينة المنورة. أضف إلى ذلك أنه في ذلكالوقت كان لها دور أساسي، باعتبارها مركزا مهما من الناحية التجارية ومنالناحية الزراعية، وكانت مدينة تعج بالحركة والنشاط بالإضافة الى كونهاملتقى القوافل التي كانت تمر من الشام إلى اليمن، ومن اليمن إلى الشام،وهذا أيضا جعلها مؤهلة أن تلعب دوراً أساسيا في انتشارالدعوة الإسلامية.
وقد فرح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عندما جاء الاذن بالهجرة الىالمدينة لأن فيها أخوال جده من بني النجار، فكان يأنس من دون شك للذهابالى المدينة ولقائهم ليعوضوه عن قسوة الأهل في مكة وظلم ذوي القربى منقريش وعنادهم وغطرستهم، فوجد في اخواله في المدينة صدرا رحبا وأنصاراكراما».
وهناك قضية اساسية يجب ان نلفت النظر اليها ونتدبرها، وهي ان عمل رسولالله، صلى الله عليه وسلم، كان عن قوة إيمان وثقة في الله عز وجل، قبل انتكون المسألة مسألة عدد وعده، فقد كان اتباعه قلة وضعافا ولكنهم أقوياءبإيمانهم بالله، وصبروا على كل الأذى الذي احاط بهم وفي نهاية الأمر كانالحق احق ان يتبع، لأن تلك سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه، فكان وقوف هذهالقلة المؤمنة وصبرها واحتسابها وصمودها درسا قويا لكل الاجيال القادمة،كان الواحد منهم كالطود الشامخ لأنه مؤمن بنصر الله عز وجل، ومؤمنبالمبادئ التي يدافع عنها، وقد خسر المشركون وباءت جهودهم بالفشل، ولميستطيعوا أن يطفئوا نور الله عز وجل، فقد ابى الله الا ان يتم نوره ولوكره المشركون، وهذه المواقف الايمانية تذكرنا بموقف أمنا هاجر وأمنا خديجة.
ومن ينظر في قصة الهجرة وترتيباتها، يحس بأبعاد ذلك التخطيط الدقيق الذيسبقه التوكل والعزيمة والامتثال لأمر الله عز وجل ثم تلاه الأخذ بالأسباب،فهذا أبو بكر الصديق يتشوق للهجرة مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولكنالرسول، صلى الله عليه وسلم، يدعوه إلى التريث حتى جاءت اللحظة الحاسمةالتي أدرك فيها أبو بكر الصديق، أن الوقت قد حان وأن الصحبة حاصلة وأنالهجرة قد أذن بها الله عز وجل.
وجاء اليوم المشهود، وجاء، صلى الله عليه وسلم، إلى دار أبي بكر في وقت لميكن من المألوف أن يزورهم فيه، فقد كان يلم بدارهم كل يوم صباحا أو فيالعشي، ولكنه لم يكن يزورهم أبدا في الهاجرة، واشتداد الحر في مكة، كماحدث في ذلك اليوم، فقال الصديق، رضي الله عنه: ما جاء برسول الله، (صلىالله عليه وسلم) إلا أمر عظيم، وربما توقع كنه هذا الأمر وانه الساعة التيكان ينتظرها. لقد اخبره عليه الصلاة والسلام ان الله تعالى قد اذن له فيالهجرة، وعليه ان يعد العدة ويستعد للخروج معه رفيقا مؤنسا معينا في هذهالرحلة الخالدة بخلود كتاب الله المجيد، فبكى أبو بكر من شدة الفرح، ومنذالساعة تزايد إحساسه بالمسؤولية عن سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم،وعن نجاح هذه الرحلة الميمونة، استأجر دليلا خبيرا ماهراً مؤتمنا، من بنيعبد بن عدي، تسلم الراحلتين يعتني بهما ويعلفهما حتى تأتي الساعةالموعودة، ثم رتب مع عامر بن فهيرة مولاه أن يرقبهما حتى إذا استقرا فيالغار ويروح عليهما باللبن من غنيمات أبي بكر كل يوم ليشربا لبنها ولتختفيآثار أقدامهما تحت أرجل الغنم، وكلف ابنه عبد الله أن يأتيهما كل ليلة ـحين تهدأ الرجل ـ محاذرا ـ ليخبرهما بما سمع من حديث المشركين وخططهموتدبيرهم، وكلف اسماء بنت أبي بكر أن تعد سفرة رسول الله، صلى الله عليهوسلم، بما سيحملانه في هذه الرحلة من زاد وماء.
هذه اذا ملامح من الهجرة النبوية توضح الصمود والصبر والرغبة فيما عندالله عز وجل ولكنها في الوقت نفسه توضح لنا أن الهجرة النبوية لم تكن قضيةمفاجأة ولا أمرا عفويا، بل كان فيها الإعداد والتنظيم والتخطيط الذي سبقهالتمهيد لهذه الهجرة سواء بعقد بيعة العقبة الأولى أو الثانية أو الثالثةيوم كان ينتهز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مواسم الحج فيلتقي بأهليثرب ويدعوهم ويهيئهم، ثم ما فعله مع الخزرج في العام التالي واخذ، صلىالله عليه وسلم، يتدرج في البيعة، ثم عندما أرسل مصعب بن عمير إلى رسولالله، صلى الله عليه وسلم، يخبره بالرجال والنساء الذين دخلوا في الإسلامفحرص الرسول، صلى الله عليه وسلم، على لقائهم في موسم الحج التالي وتمتالبيعة والرسول، صلى الله عليه وسلم، يحادثهم ويقول لهم: «ابايعكم على انتمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فردوا عليه: نعم، والذي بعثكبالحق نبيا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الدروع ورثناهاكابر عن كابر».
هكذا مهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لهذه الهجرة ثم خطط لها لخداعالمشركين يوم طلب من سيدنا علي بن أبي طالب البطل المغوار أن ينام فيفراشه، فهذه التنظيمات من كتمان تام لخبر الهجرة، واختيار ملائم للتوقيتوالخروج في وقت الهزيع الأخير من الليل وسلوكه طريقا غير الطريق الذيتألفه قريش، كل هذه الأمور تعلم الأمة أهمية التخطيط في حياتها وأهميةالتنظيم وأهمية الشورى وأهمية التعاون، ثم العزم والتوكل على الله والصمودفي سبيل مرضاة الله عز وجل مهما كانت الصعاب ومهما كانت الكوارث ومهماكانت التحديات.
إنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعلمنا الدروس والسنة الشريفة ولذلكفقد حرص عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح أن يؤكد على قضية مهمة:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي»، لأنه القدوة ولأنه الأسوةولأن هؤلاء الرجال أخذوا عنه.
وانه لأمر مهم ان نستغل المناسبات الاسلامية المهمة لتذكير النشء والاسرةوالمجتمع بأهمية مثل هذه الايام التي هي ايام الله عز وجل. والهجرةالنبوية واقعة حقيقية وقضية أساسية في حياة هذه الأمة، ولهذا فمن المناسبالوقوف عندها دائما، وان نحكي لأولادنا احداثها ووقائعها، ولكن المهم هوان نقف عند هذا الحدث التاريخي ونتعلم منه قضايا أساسية أهمها تلك اللمحاتالمشرقة في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي لم يهاجر حتى اذن لهالله سبحانه وتعالى بالهجرة وصمد وكافح وصبر على كل ألوان الأذى والبلاءوالرزايا في مكة المكرمة، ومن أهله وذويه، ثم من أهل الطائف من أعرابوغيرهم، كل ذلك يعطينا درسا في أبعاد هذه الهجرة وذلك لأن رسول الله، صلىالله عليه وسلم، صمد وكافح وصبر امتثالا لأمر الله عز وجل، والله سبحانهوتعالى قدم لنا في حبيبه، صلى الله عليه وسلم، القدوة والأسوة لكل من يريدان يتصدى للدعوة الإسلامية ويدعو الى الله بصدق وإخلاص وبحكمة وموعظة حسنةفلا بد ان يصبر ويتحمل الأذى في سبيل ذلك، كما تحمل الرسول، صلى الله عليهوسلم، من اقرب المقربين له وممن حوله، ومن أهله وذويه، وكان من الممكن انيجنبه الله عز وجل كل هذه البلايا، ولكن إرادة الله سبحانه وتعالى سابقةجعلت فيه القدوة والأسوة لهذه الأمة.
وختاما فهذه لقطات من جوانب الهجرة النبوية التي نتعلم منها كل يوم دروساجديدة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة وهو الأسوة لهذهالأمة، وعلينا ان نتعلم ونعلم اولادنا جوانب من السيرة العطرة ونربيهمعليها