- أقوال أهل العلم في تفسير المثل الأعلى
- الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
- من درس: المثل الأعلى
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:[واختلفت
عبارات المفسرين في المثل الأعلى، ووفق بين أقوالهم بعض من وفقه الله
وهداه، فقَالَ: المثل الأعلى يتضمن: الصفة العليا، وعلم العالمين بها،
ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب تَعَالَى بواسطة العلم
والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه. فهاهنا أمور أربعة:الأول: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه، سواء علمها العباد أو لا، وهذا معنى قول من فسرها بالصفة. الثاني: وجودها في العلم والشعور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه، من معرفته وذكره، ومحبته وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه.وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشركه فيه غيره أصلاً، بل يختص به في قلوبهم، كما اختص به في ذاته. وهذا
معنى قول من قال من المفسرين: إن معناه: أهل السموات يعظمونه ويحبونه
ويعبدونه، وأهل الأرض كذلك، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد
صفاته من جحدها، فأهل الأرض معظمون له مجلون، خاضعون لعظمته، مستكينون
لعزته وجبروته، قال تعالى:
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ
[الروم:26].الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها، وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل. الرابع:
محبة الموصوف بها وتوحيده، والإخلاص له، والتوكل عليه، والإنابة إليه،
وكلما كَانَ الإيمان بالصفات أكمل، كَانَ هذا الحب والإخلاص أقوى. فعبارات السلف كلها تدور عَلَى هذه المعاني الأربعة. فمن أضل ممن يعارض بين قوله تعالى:
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى
[الروم:27]، وبين قوله:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
[الشورى:11]؟ ويستدل بقوله:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
عَلَى نفي الصفات ويعمى عن تمام الآية وهو قوله:
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
[الشورى:11]، حتى أفضى هذا الضلال ببعضهم، وهو أحمد بن أبي دؤاد القاضي . إلى أن أشار عَلَى الخليفة المأمون</a>
أن يكتب عَلَى ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، حرّف كلام
الله لينفي وصفه تَعَالَى بأنه السميع البصير، كما قال الضال الآخر جهم بن صفوان : وددت أني أحك من المصحف قوله تعالى:
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
[الأعراف:54]، فنسأل الله العظيم السميع البصير أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، بمنه وكرمه] اهـ. الشرح:هذا الذي ذكره المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ في تفسير المثل الأعلى، وأثنى عَلَى قائله هو من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو موجود في مختصر الصواعق .
ومعنى ما ذكره المُصنِّف هنا: أن عبارات السلف التي اختلفت في تفسير المثل الأعلى تدور عَلَى أربعة معانٍ: فمنهم من فسره بأنه صفاته التي يوصف بها.ومنهم من فسره بإدراك المخلوقين، أو إحساس كل مخلوق بأن الله هو الأعلى في كل شيء.ومنهم من فسره بأنه ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.ومنهم من فسره بأنه توحيده وإخلاص العبادة له. والمثل الأعلى -هذه: الجملة العظيمة- يتضمن هذه الأمور جميعاً. واختلاف أقوال السلف من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد، فإن قوله تعالى:
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى
[النحل:60] يتضمن هذه الأمور الأربعة:
الأول:
ثبوت الصفة العليا لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، أي صفة عليا، وأي صفة
كمال، فهي ثابتة لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سواء علمها العباد أو لم
يعلموها، فما علمه الإِنسَان وما لم يعلمه من صفات الكمال، فإنه ثابت لله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو المتصف بالكمال المطلق وحده.
والثاني:
وجودها في العلم والشعور، أي أنها توجد لدى الملأ الأعلى، ولدى الناس، حتى
لدى الكافر منهم، كما قلنا -مثلاً- أن من يعبد الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويؤمن
بوجوده، فلا بد أن يتصور أنه حي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن له كمال
الحياة، وأن هذا الإله الحي يفعل ما يشاء، وأنه قدير عَلَى كل شيء
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فهذه كلها تدل عَلَى أنه قد استقر في
نفوس البشر، وفي أحاسيسهم وإدراكهم أن الذي له هذه الصفات بإطلاق، ولا
ينازعه فيها شيء، ولا يقارنه في تمامها وكمالها شيء، هو الله وحده
-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ ولذلك فإنك تجد أن أي إنسان إذا أعجزه أمر من
الأمور يقول: هذا شيء لا يقدر عليه إلا الله. أما الكافر وإن كَانَ يقول
أنه لا يؤمن بوجود الله، فإنه يُعبر عن هذا بالفطرة، فإنه مستقر في الذهن
أن القدرة المطلقة التي لا يغلبها أي شيء، هي لله وحده، وهكذا بقية الصفات.
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل. ومعنى
هذا أن لله -عَزَّ وَجَلَّ- من الصفات ما لا يترتب عليها عمل -أي
بالجوارح- حسب فهم بعض الناس، فيُقال لهذا: مجرد علمك بها يزيد إيمانك
بالله، ويزيد معرفتك به، ويجعل في القلب علم ونور. ومثل هذا بعض
الصفات التي جاءت في الأحاديث من أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يخفض القسط
ويرفعه، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق العرش، وخلق القلم، وأنه قدر
المقادير، ولكن نقول: إن هذه الصفات قد يكون لها بعض الأثر المباشر أو غير
المباشر في أعمال الجوارح، وقد قلنا: إن مجرد المعرفة القلبية نفسها عمل،
ثُمَّ إنها قد تورث عملاً بالجوارح، وهذا من ثمرة معرفتك ربك سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى.
فعلى
هذا: إذا سمعت من يقول لك: لا تتعلم الصفات، فاعلم أنه كأنما يقول لك: لا
تقرأ القرآن، ولا تقرأ السنة، ولا تعرف ربك، كما قال بعضهم في كتاب له حق
الله عَلَى العباد وحق العباد عَلَى الله: المهم أن الإِنسَان يطيع الله،
فلو أني -مثلاً- أطعت الملك، وسواء كنت أعلم أن هذا الملك هو في هذا البلد
أولاً. المهم أنني أطعته، فكذلك الله -سبحانه- المهم أني أطعت أمره. فيأتينا
بهذا المثال الذي فيه تشبيه بربنا -عَزَّ وَجَلَّ-، ويخبرنا الله أنه
عَلَى العرش، لكنه يقول: لا يهم معرفة كونه عَلَى العرش أولا، فليس لنا
دخل، المهم أن نطيعه، نصلي له ونعبده. فنقول
له: -سُبْحانَ اللَّه!- أليست الصلاة نفسها نقول فيها:سبحان ربي الأعلى؟!
إذاً فالصلاة مرتبطة بالإيمان، ومرتبطة بالأسماء والصفات. فهل
يجوز لإنسان أن يقول: أنا حر في أن ألغي هذه الآيات التي في العلو، وهذه
الآيات الكثيرة التي في الاستواء، والمهم أنني أصلي لله وأصوم له؟!-سُبْحانَ اللَّه!- كيف يعرض هذا الإِنسَان عن الفقه الأكبر -كما سماه أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ- وهو معرفة الله، ويعمل بالفقه الأصغر، الذي هو الأحكام، والحلال والحرام؟!
ونعود إِلَى الكلام عن توحيد العبد، حول الكلام عَلَى أن من عارض بين قوله تعالى:
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى
[النحل:60]، وبين قوله:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...
[الشورى:11]، فهو كما قال المصنف: ليس هناك أحد أضل منه. لأن مثل هذا الضلال أفضى بـابن أبي دؤاد -وكان وزيراً للمأمون</a> مقرباً عنده- إِلَى أن قال للمأمون</a> لما عمل لباساً للكعبة: اكتب عَلَى ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم. وذلك لأنه يرى أن في قوله سبحانه:
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
[الشورى:11] تشبيه، وهذا لقلة عقله وفجوره. -سُبْحانَ اللَّه!- أوليس للبشر أيضاً عزة وحكمة، كما لهم سمع وبصر؟ بلى والله، ولكنه الضلال والافتراء والبهتان، قال الله تعالى:
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
[المنافقون:8]، فيهم أيضاً صفة الحكمة، قال الله تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ
[لقمان:12]، كما أن فيهم صفتي السمع والبصر، قال الله تعالى:
إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
[الإِنسَان:2].إذاً
الفرق بين صفات الله وصفات المخلوقين: أن صفات الله تَعَالَى لائقة بجلاله
وعظمته، وأن صفات المخلوقين لائقة بهم، لجهلهم ونقصهم وعجزهم. كما قال أحد المعتزلة أيضاً:وددت أني أحك من المصحف قوله تعالى:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
[المسد:1] -نعوذ بالله من الضلال-. وهذا المعتزلي قيل إنه: عمرو بن عبيد
، ومما نقل عنه أنه كَانَ دائماً إذا قرأ هذه السورة يتضجر، ويريد أن لا
تكون من القرآن، وسبب ذلك أن عقل هذا الفاجر الضعيف -سواء كَانَ هو عمرو
أو غيره-، يقول:كيف ينزل الله هذه السورة:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
[المسد:1] -وفيها دليل عَلَى أن أبا لهب سيموت كافراً- وأبو لهب لا يزال حياً وكأن فيها تعجيز؟!وأصل هذا السؤال أورده عليه الفلاسفة فَقَالُوا: كيف يكون موقف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا آمن أبو لهب ، وكان مصيره الجنة؟ فاحتار ولم يعرف الجواب فقَالَ: ليتني أحك هذه السورة من المصحف، فنرتاح من المشكلة ومن الجواب، نسأل الله العفو والعافية. وكان الواجب عليه أن يسأل أهل العلم، كما قال الله تعالى:
فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
[الأنبياء:7]. ثُمَّ
إن هذه الصفات التي ذكرها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في القرآن،
وذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة، صفات كمال ليس
فيها نقص من وجه من الوجوه.
والمعنى
الرابع: أن إثبات المثل الأعلى لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يتضمن
توحيده، وعبادته وحده لا شريك له بإخلاص؛ لأنه كلما كَانَ إيمان الإِنسَان
بأن لله المثل الأعلى أكثر، كلما كانت عبادته لله -سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى- أكثر وأعظم، وهذا أمر محسوس.
ولذلك قال كثير من السلف في قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
[النساء:17]، ليس المقصود بالذي يعمل السوء: الذي يرتكب الفاحشة وهو جاهل،
كَانَ يزني وهو لا يدري أن الزنى حرام، إنما المقصود أن كل من عصى الله
فهو جاهل، أي: جاهل بقدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- حين ارتكب هذه المعصية فإن
من كَانَ يعلم أن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مطلع عليه، عالم بأحواله،
رقيب عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل حركاته، ولا يخفى عليه من أمره
شيء، وأنه تَعَالَى شديد العقاب، قد أعد النَّار لمن يعمل هذه الفاحشة،
فكل هذه الأمور التي وصف الله بها نفسه، من كَانَ يعلمها حقيقةً في تلك
اللحظة، فإنه لا يفعل الفاحشة أبداً، فهو جاهل بقدر الله لا بحكمه، كما في
حديث قصة الرجل الذي قيل له: {اتقِ الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه}
. فإن
معنى اتق الله: تذكر هذه المعاني كلها، فكف عنها الرجل ولم يفعل شيئاً؛
لأنه في تلك اللحظة كَانَ جاهلاً بقدر الله عَزَّ وَجَلَّ، فأراد أن يرتكب
المعصية فلما ذكرته بذلك تذكر الله وعظمته، وعظمة وعيد الله فلم يفعل. ولذلك نقول: إنه كلما كَانَ الإِنسَان أعلم بالله، كَانَ أبعد عن معصية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. مثال آخر: وهو ذلك الرجل الذي مر ذكر قصته قبل، وأنه قال حين موته: {إذا أنا مت فأحرقوني، ثُمَّ ذروني فضعوا نصفي في البحر ونصفي في البر...}
؛ والذي حمله عَلَى ذلك جهله بمعنى:
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[البقرة:20]، فما بالك بمن يجهل كثيراً من صفات الله ولا يعلمها؟
والرد
عَلَى شبهات أهل الباطل من باب الجهاد بالقرآن، وهذا مما ابتلى الله به
العلماء وقبلهم الأنبياء، وهذا لا بد منه، فإن النبي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعثه الله، وكذلك جميع الأَنْبِيَاء -عليهم الصلاة
والسلام- كانوا يتمنون أن يأتي أحدهم فيقول لقومه:
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
[هود:50]، فيؤمن القوم، وينتهي الأمر، لكن لم يكن ذلك، بل وجد من يعادي،
ومن يجادل، حتى قال القائل: صف لنا ربك؟ وكثرت الشبهات والأقاويل في الله
سبحانه، وفي الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه ساحر ومفتر
وكذاب، وَقَالُوا: أساطير الأولين اكتتبها، فكان لا بد من رد عَلَى هذه
الشبهات، ولذلك رد القُرْآن عليها وبين بطلانها. والكلام
هنا عن الصفات من هذا القَبيل؛ لأن حقيقة معرفة صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ-
ثمرتها أن يعرف الإِنسَان ربه، وهذا أشرف العلوم جميعاً؛ حتى ولو علمت صفة
لا يترتب عليها عمل؛ لأن العلم بها يزيد إيمانك بالله، ويزيد معرفتك بالله
عَزَّ وَجَلَّ.
وان شاء الله تستفيدو